شرح الجامع الصحيح لابن بطال

[كتاب جزاء الصيد]

          ░░28▒▒ باب: جَزَاءِ الصَّيْدِ.
          وقولِهِ تعالى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} إلى قوله: {الذي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}[المائدة:95].
          اتَّفق أئمَّة الفتوى بالحجاز والعراق أنَّ المحرم إذا قتل الصَّيد عمدًا أو خطأ فعليه الجزاء، منهم: مالك واللَّيث والأوزاعيُّ والثَوريُّ وأبو حنيفة والشَّافعيُّ وأحمد وإسحاق، وقال أهل الظَّاهر: لا يجب الجزاء إلَّا على من قتل الصَّيد عمدًا، لقوله تعالى: {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا}[المائدة:95]لأنَّ دليل الخطاب يقتضي أنَّ المخطئ بخلافه، وإلَّا لم يكن لتخصيص المتعمِّد معنى.
          قالوا: وقد روي عن عُمَر بن الخطَّاب ما يدلُّ على أنَّ ذلك كان مذهبه، روى سفيان، عن عبد الملك بن عمير، عن قَبِيصَة بن جابرٍ، عن عمر أنَّه سأل رامي الظَّبي وقاتله: عمدًا أصبته أم خطأً؟ قالوا: ولم يسأله عمر عن ذلك إلَّا لافتراق العمد والخطأ عنده. قال ابن القصَّار: وروي مثله عن ابن عبَّاس.
          قال الطَّحاويُّ: وذهب جماعة العلماء في تأويل قوله: {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا} إلى قوله: {وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللهُ مِنْهُ}[المائدة:95]وقالوا: لا حجَّة في قول عمر للرَّجل: أعمدًا أصبته أم خطأً؟ لأنَّه يجوز أن يسأله عن ذلك ليعلِمه إن كان قتله عمدًا، ثمَّ قتل بعده صيدًا عمدًا انتقم الله منه، فأراد عمر تحذيره من ذلك، مع أنَّه قد روى شعبة هذا الحديث عن عبد الملك بن عمير، عن قَبِيصَة قال له: أعمدًا أصبته أم خطأً؟ فقال: ما أدري. فأمر بالفدية.
          فخالف رواية سفيان، فدلَّ ذلك على أنَّه سأله عن العمد والخطأ ليقف به على وجوب الانتقام في العودة، مع أنَّ الأشبه بمذهب عمر مذهب الجماعة، روى شعبة عن الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود، أنَّ كعبًا قال لعمر: إنَّ قومًا استفتوني في مُحرم قتل جرادة، فأفتيتهم أنَّ فيها درهم، فقال: إنَّكم بأهل مصرٍ كثيرةٌ دراهمكم، لتمرة خير من جرادة. أفلا ترى عمر لم ينكر على كعب تركه سؤال القوم عن قتل المحرم للجرادة إن كان عمدًا أو خطأ، لاستواء الحكم في ذلك عنده.
          ولو اختلف الحكم في ذلك عنده لأنكر عليه تركه السُّؤال عن ذلك، وهذا ابن مسعود وابن عبَّاس وعبد الله بن عُمَر وعبد الله بن عَمْرو كلُّهم قد أجاب فيما أصاب المحرم بوجوب الجزاء، ولم يسأل أحد منهم عن عمدٍ في ذلك ولا خطأٍ، ولا يكون ذلك إلَّا لاستواء الحكم عندهم في ذلك.
          ثمَّ إنَّ السُّنَّة الثَّابتة عن الرَّسول صلعم تدلُّ على هذا المعنى، روى جرير بن حازم، عن عبد الله بن عبيد بن عميرٍ، عن عبد الرَّحمن بن أبي عمارٍ، عن جابر: ((أنَّ النَّبيَّ صلعم سئل عن الضَّبُع، فقال: هي صيد، وفيها إذا أصابها المحرم كبشٌ)) ورواه عطاء عن جابرٍ، فلمَّا جعل رسول الله صلعم الجزاء في الصَّيد ولم يذكر في ذلك عمدًا ولا خطأً، ثبت أنَّ ذلك سواء في وجوب الجزاء، وقال الزُّهريُّ: نزل القرآن بالعمد، وهو في الخطأ سنَّة.
          قال الطَّحاويُّ: والقياس يدلُّ على هذا المعنى لأنَّا قد رأينا الله تعالى قد حرَّم على المحرم أشياء منها: الجماع، وقتل الصَّيد، مع سائر ما حرَّمه عليهم سواهما، فكان مَنْ جَامع في إحرامه عامدًا أو ساهيًا في وجوب الدَّم وفساد الحجِّ، وكذلك قتل الصَّيد كالجماع سواء يستوي فيه العمد والخطأ، والخطأ بالكفَّارة أقلُّ من العمد، لأنَّ الله تعالى جعل في كتابه على من قتل مؤمنًا خطأ ولم يوجبها على من قتله متعمدًا.
          قال ابن القصَّار: واحتجَّ أهل الظَّاهر بقوله ◙: ((رفع عن أمَّتي الخطأ والنِّسيان)) قال: والفقهاء مجمعون أنَّ الخطأ والنِّسيان ليس في إتلاف الأموال، وإنَّما المراد به رفع المأثم. قال إسماعيل بن إسحاق: وما رواه أهل الظَّاهر عن ابن عبَّاس فإسناده ضعيف، رواه قَتادة عن رجل، عن ابن عبَّاس.
          واختلفوا في تأويل قوله: {فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ}[المائدة:95]فقال ابن القصَّار عن مالك: إذا قتل المحرمُ صيدًا لَهُ مِثْلٌ مِنَ النَّعَمِ في المنظر فعليه مثله، ففي الغزال شاة، وفي النَّعامة بدنة، وفي حمار الوحش بقرة. وبه قال مجاهد والحسن والشَّافعيُّ.
          وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: الواجب في قتل الصَّيد القيمة، سواء كان له مِثْلٌ من النَّعَم أم لا، وهو بالخيار بين أن يتصدَّق بقيمته وبين أن يصرف القيمة في النَّعم فيشتريه ويهديه، وقالوا: لمَّا لم يجز أن يراد بالمثل / المثل من الجنس، عُلم أنَّ المراد به القيمة، وأنَّها تُصرَف في النَّعم والدَّليل على أنَّ المراد بالمثل القيمة قوله: {لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ}[المائدة:95]وهذا لفظ عامٌّ في جميع الصَّيد، سواء كان له مثل أو لا، ومعلوم أنَّ ما لا مثل له من جنسه ونظيره فإنَّ الواجب في إتلافه القيمة، فصار المراد بالمثل القيمة في أحد الأمرين فينبغي أن يكون المراد بالنَّظير، لامتناع أن يعبِّر باللَّفظ الواحد على معيَّن مجانس، لأنَّ القيمة متى صارت مرادة بالآية في أحد نوعي الصَّيد صارت كالمذكورة في الآية، فبقي حمل الآية على غيرها.
          قال ابن القصَّار: فالجواب أنَّ قوله تعالى: {فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ}[المائدة:95]فالمراد به مثل المقتول، ولو اقتصر عليه ولم يقيِّده بالنَّعم لكان الواجب في الظَّبي ظبيًا، وفي النَّعامة نعامة، وفي بقرة الوحش بقرة، فلمَّا قال: {مِنَ النَّعَمِ} أوجب أن يكون الجزاء مثل المقتول من النَّعم لا من غيره، ومثله من النَّعم ليس هو القيمة، والمماثلة من طريقة الخلقة مشاهدة محقَّقة، وما طريقها القيمة طريقها الاستدلال.
          ولمَّا خصَّ الله النَّعم من سائر الحيوان لم تكن له فائدة إلَّا أنَّ المراد المثل من طريق الخلقة والصُّورة من النَّعم دون القيمة، ولم يعقل منه مثل ما قتل من الدَّراهم، لأنَّه لو اقتصر على قوله: {فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ}[المائدة:95]لم يعقل منه مثله من الدَّراهم، فتقييده بالنَّعم أولى ألَّا يعقل منه الدَّراهم، وقد يراد بالآية الحقيقة في موضع والمجاز في آخر، فيكون المثل من النَّعم في قتل الغزال والنَّعامة وبقرة الوحش، وفيما لا مثل له القيمة، وإنَّما يتنافى ذلك في حالة واحدة، فأمَّا في حكمين فلا.
          قال المُهَلَّب: فإن قيل: فقد قال مالك وجماعة الفقهاء غير أبي حنيفة: في الحمامة شاة، وليست الشَّاة مماثلة للحمامة. يقال له: أغفلت، وذلك أنَّ اشتراطه تعالى في المثل أن يكون من النَّعم، والطَّير ليست من النَّعم، فوجب أن يكون كلُّ جزاء يغرم من النَّعم لا من جنس الحيوان المقتول، لأنَّ الجزاء لا يكون إلَّا هديًا كما شرط الله {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ}[المائدة:95]وأقلُّ الهدايا من النَّعم شاة، فوجب هدي المقتول ممَّا يكون هديًا لا مماثلًا من جميع الجهات كما ظنَّ المخالف.
          واختلفوا في قوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ}[المائدة:95]فقال مالك: لا يجوز أن يكون القاتل أحد العدلين. وجوَّزه الثَّوريُّ والشَّافعيُّ، واختلف أصحاب أبي حنيفة على القولين، قال ابن القصَّار: والحجَّة لقول مالك قوله تعالى: {ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ}[المائدة:95]كما قال تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ}[الطلاق:2]فيحتاج إلى حَكَمين غيره يحكمان، كما يحتاج إلى شاهدين غيره.
          وقال الطَّحاويُّ: ووجدنا الحكومات المذكورات في كتاب الله فيما سِوى ذلك إنَّما يكون من غير المحكوم عليهم، قال تعالى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا}[النساء:35]ولا يجوز أن يكون الزَّوج الحكم الذي من أهله، وإنَّما يكون من عُلِم عدله، وأُمِن على المحكوم عليه وعلى المحكوم له، ولم يكن جارًّا إلى نفسه ولا دافعًا عنها شيئًا.
          قال ابن المنذر: اتَّفق مالك والكوفيُّون والشَّافعيُّ وأحمد وأبو ثور أنَّه بالخيار، إن شاء أتى بالهدي، وإن شاء صام، وإن شاء تصدَّق، وقال الثَّوريُّ: إن لم يجد هديًا أطعم، فإن لم يجد طعامًا صام.
          وقال الحسن والنَّخعيُّ: إن لم يكن عنده جزاؤه قُوِّم بدراهم، ثمَّ قوِّمت الدَّراهم بطعام وصام، وإنَّما أريد بالطَّعام الصِّيام.
          وقال سعيد بن جبيرٍ: إنَّما الطَّعام والصِّيام فيما لا يبلغ ثمن الهدي. والصَّواب قول من جعله بالخيار، لقول ابن عبَّاس: كلُّ شيء أراد فهو مخيَّر، وما كان فإن لم يجد فهو الأوَّل فالأوَّل.
          واختلفوا في الصَّوم المعدَّل في القيمة، فكان بعضهم يقول: يصوم عن كلِّ مُدَّيْن يومًا. هذا قول ابن عبَّاس، وبه قال الثَّوريُّ والكوفيُّون وأحمد وإسحاق وأبو ثور، وقال بعضهم: يصوم عن كلِّ مُدٍّ يومًا. هذا قول عطاء ومالك والشَّافعيِّ، قال الطَّحاويُّ: فنظرنا في ذلك، فوجدنا النَّبيَّ صلعم قد أمر كعب بن عُجرَة أن يطعم كلَّ مسكين يومًا واحدًا، كان يصوم اليوم الواحد عن المُدَّين.
          واختلفوا في قوله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللهُ مِنْهُ}[المائدة:95]هذا الوعيد معه جزاءٌ عائدٌ على مُصيب الصَيد، كما كان عليه في إصابته / إيَّاه بدءًا. فذهب بعضهم إلى أنَّه لا جزاء عليه في ذلك إلَّا أوَّل مرَّةٍ، فإن عاد تُرك والنِّقمة، روي هذا عن شريحٍ، وذكره ابن المنذر عن ابن عبَّاسٍ وشريحٍ والنَّخعيِّ والحسن وقَتادة ومجاهدٍ.
          وذهب الكوفيُّون ومالك والشَّافعيُّ وأحمد وإسحاق إلى أنَّه يحكم عليه بالجزاء كلَّ مرَّةٍ أصابه، قال الطَّحاويُّ: وهذا الصَّواب، لأنَّا روِّينا عن عمر وعبد الرَّحمن بن عوفٍ وابن مسعودٍ وابن عبَّاسٍ وابن عمر وغيرهم، أنَّهم حكموا على المُحْرِمين بإصابة الصَّيد ولم يسأل أحد منهم المحكوم عليه هل أصاب صيدًا قبل إصابته ذلك الذي حكموا فيه بالجزاء، فدلَّ ذلك على أنَّه لا فرق عندهم بين البدء والعود، والنَّظر يدلُّ على ذلك، لأنَّا رأينا أشياء منع الله منها المحرمين، منها الجماع وقتل الصَّيد وغير ذلك، وكان من جامع في إحرامه فوجب عليه الهدي فأهداه، ثمَّ جامع ثانية في إحرامه فوجب عليه الهدي أيضًا، كذلك الصَّيد، فإن قيل: إنَّما أثنيت الكفَّارة على العائد لوقوع النِّقمة عليه. قيل: أو ليس إنَّما كان منتقمًا منه بمعصية الله، أفرأيت إن قتل الصَّيد بدءًا عالمًا منتهكًا للحرمة، أمَّا كان يجب عليه في ذلك نقمة وكان عليه الجزاء، فكذلك إذا عاد، ويجوز أن يكون معنى قوله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللهُ مِنْهُ}[المائدة:95]إن شاء ذلك، لأنَّ أحكام الوعيد في العقوبات كذلك كانت عند العرب، إن شاء الله أوعد بها أنجزها، وإن شاء تركها.
          وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أنَّ صيد البحر مباح للمحرم اصطياده وبيعه وشراؤه واختلفوا في معنى قوله: {وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ}[المائدة:96]وسأذكره في كتاب الصَّيد.