شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب حرق الدور والنخيل

          ░154▒ باب: حَرْقِ الدُّورِ والنَّخِيلِ
          فيه: جَرِيرٌ قَالَ الرَّسول صلعم: (أَلا تُرِيحُنِي مِنْ ذِي الْخَلَصَةِ؟) _وَكَانَ بَيْتًا في خَثْعَمَ يُسَمَّى: الكَعْبَةَ الْيَمَانِيَةِ_ قَالَ: فَانْطَلَقْتُ في خَمْسِينَ وَمِائَةِ فَارِسٍ مِنْ أَحْمَسَ، وَكَانُوا أَصْحَابَ خَيْلٍ، وَكُنْتُ لا أَثْبُتُ على الْخَيْلِ، فَضَرَبَ في صَدْرِي، حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ أَصَابِعِهِ في صَدْرِي، وَقَالَ: اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ، وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا، فَانْطَلَقَ إِلَيْهَا فَحَرَّقَهَا وَكَسَرَهَا، ثُمَّ بَعَثَ إلى النَّبيِّ صلعم بُخْبِرُهُ، فَقَالَ رَسُولُ جَرِيرٍ: والذي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا جِئْتُكَ حَتَّى تَرَكْتُهَا كَأَنَّهَا جَمَلٌ أَجْوَفُ _أَوْ أَجْرَبُ_ قَالَ: فَبَارَكَ في خَيْلِ أَحْمَسَ، وَرِجَالِهَا، خَمْسَ مَرَّاتٍ. [خ¦3020]
          وفيه: ابْنُ عُمَرَ: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم حَرَّقَ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ). [خ¦3021]
          قال المُهَلَّب: في حديث جريرٍ من الفقه جواز هتك كلِّ ما افتتن النَّاس به من بناءٍ أو إنسانٍ أو حيوانٍ أو غيره.
          وفي حديث ابن عمر بيان أنَّ للمسلمين أن يكيدوا عدوَّهم من المشركين بكلِّ ما فيه تضعيف شوكتهم، وتوهين كيدهم وتسهيل الوصول إلى الظَّفر بهم من قطع ثمارهم، وتغوير مياههم والحول بينهم وبين ما يتغذَّون به من الأطعمة والأشربة، والتَّضييق عليهم بالحصار، وذلك أنَّ رسول الله لمَّا أمر بتحريق نخل بني النَّضير كان معلومًا أنَّ ما كان من نظير ذلك من قطع أسباب معاشهم / وتغوير مياههم فجائزٌ فعله بهم. وقد روي عن عليِّ بن أبي طالبٍ قال: ((أمرني رسول الله أن أُغوِّر مياه بدرٍ)) قاله الطَّبريُّ.
          وفيه الدُّعاء للجيوش إذا بعثت، وفيه بركة دعوة النَّبيِّ، وفيه البشارة في الفتوح، وفيه الدَّليل على صحَّة قول من أباح إضرام النِّيران في حصون العدوِّ، ونصب المجانيق عليهم، ورميهم بالحجارة، وكلُّ ذلك يعمل في الضُّرِّ مثل عمل النَّار أو نحوه.
          واختلف العلماء في قطع شجر المشركين، وتخريب بلادهم، فرخَّصت في ذلك طائفةٌ وكرهته طائفةٌ، فممَّن أجاز ذلك مالكٌ والكوفيُّون والشَّافعيُّ. قال الكوفيُّون: يُحرَّق شجرهم، وتُخرَّب بلادهم، وتُذبَح الأنعام وتُحرَّق إذا لم يمكن إخراجها. وقال مالكٌ: يحرَّق النَّخل ولا تُعَرقب المواشي. وقال الشَّافعيُّ: تُحرَّق الأشجار المثمرة والبيوت، وأكره تحريق الزَّرع والكلأ.
          وأمَّا من كره ذلك: فروى الزُّهريُّ عن سعيد بن المسيِّب أنَّ أبا بكرٍ الصِّدِّيق قال في وصيَّة الجيش الذي وَجَّه إلى الشَّام: لا تغرقنَّ نخلًا ولا تحرقنَّها، ولا تعقروا بهيمةً، ولا شجرةً مثمرةً، ولا تهدموا بيعةً.
          وقال اللَّيث: أكره حرق النَّخل والشَّجر المثمر، ولا تُعرقَب بهيمةٌ، وهو قول الأوزاعيِّ في روايةٍ، وبه قال أبو ثورٍ، والحجَّة في قول من أجاز تحريقها لشهادة الكتاب والسُّنَّة له، قال تعالى: {مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ}الآية[الحشر:5]. قال ابن عبَّاسٍ: اللِّينة: النَّخلة والشَّجرة. وقال ابن إسحاق: التَّحريق سنَّةٌ إذا كان أنكى للعدوِّ. وحديث جريرٍ وابن عمر يشهد لصحَّة هذا القول.
          وقد تأوَّل بعض الفقهاء أنَّ أمر أبي بكرٍ الصِدِّيق ألَّا تحرقنَّ شجرةً إنَّما كان من أجل أنَّ النَّبيَّ ◙ أخبرهم أنَّهم يفتتحونها.
          وقال الطَّحاويُّ: خبر أبي بكر مرسلٌ؛ لأنَّ سعيد بن المسيِّب لم يولد في أيَّام أبي بكرٍ الصِّدِّيق، وقال الطَّبريُّ: نهي أبي بكرٍ عن تحريق النَخل وتغريقه إنَّما هو نهيٌ أن يقصد بذلك ويتعمَّد، فأمَّا إذا أصابه التَّحريق والغرق في خلال الغارة فغير متبوعٍ به في الدُّنيا والآخرة من فعله، كما النَّهي عن قتل النِّساء والصِّبيان إنَّما هو نهيٌ عن قصدهم بالقتل وتعمُّدهم بأعيانهم، فأمَّا من أصابته الخيل في البيات، أو هلك عند سقوط حصن المدينة عليهم عند هدم المسلمين إيَّاه إرادة وصولهم إلى المقاتلة، أو من أحرقته النَّار، أو غرقه الماء على هذا الوجه فغير داخلٍ في الذين نهى الرَّسول صلعم عن قتلهم؛ لأنَّ النَّبي ◙ قد نصب المنجنيق على الطَّائف، ولا شكَّ أن حجارته إذا وقعت في الحصن ربَّما أصابت المرأة والطِّفل، فلو كان سبيل ما أصابه ذلك سبيل ما أصاب الرَّامي بيده متعمِّدًا كان ◙ لا ينصبه خشية أن تصيب حجارته من نهى عن قتله، فلمَّا فعل ذلك وأباحه لأمَّته كان مخالفًا سبيل القصد والعمد في ذلك.
          واختلفوا إذا غنم المسلمون مواشي الكفَّار ودوابِّهم، وخافوا من كرَّة عدوِّهم وأخذها من أيديهم. فقال مالكٌّ وأبو حنيفة: تُعرقَب وتُعقَر حتَّى لا ينتفعوا بها. وقال الشَّافعيُّ: لا يحلُّ قتلها، ولا عقرها، ولكن تخلَّى. واحتجَّ ابن القصَّار في ذلك فقال: لا خلاف بيننا أنَّ المشرك لو كان راكبًا لجاز لنا أن نُعرقِب ما تحته ونقتله لنتوصَّل بذلك إلى قتله، فكذلك إذا لم يكن راكبًا، وكذلك فعل ما فيه توهينهم وضعفهم بمنزلةٍ واحدةٍ، ألا ترى أنَّ قطع شجرهم وإتلاف زروعهم يجوز لأنَّ في ذلك ضعفهم وتلفهم، وكذلك خيلهم ومواشيهم، وقد مدح الله تعالى من فعل ذلك فقال: {وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ}[التوبة:120]فهو عامٌّ في جميع ما ينالون، ولمَّا كانت نفوسهم وأموالهم سواءً في استحلالنا إيَّاهم ثمَّ جاز قتلهم إذا لم يُتمكَّن من أسرهم كذلك يجوز إتلاف أموالهم التي يتقوَّون بها.