شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب درجات المجاهدين في سبيل الله

          ░4▒ باب دَرَجَاتِ الْمُجَاهِدِينَ في سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى
          يُقَالُ(1): هَذِا سَبِيلِي، وَهَذهِ سَبِيلِي. قَالَ أَبُو عَبدِ اللهِ: {غُزًّى}: وَاحِدُهَا غَازٍ، {هُمْ دَرَجَاتٌ}[آل عِمْرَان:163]لَهُمْ دَرَجَاتٌ.
          فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبيُّ ◙: (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ، وَأَقَامَ الصَّلاةَ، وَصَامَ رَمَضَانَ، كَانَ حَقًّا على اللهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، جَاهَدَ في سَبِيلِ اللهِ، أَوْ جَلَسَ في أَرْضِهِ التي وُلِدَ فِيهَا، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَلا نُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قَالَ: إِنَّ في الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللهُ لِلْمُجَاهِدِينَ في سَبِيلِ اللهِ، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَأَعلى الْجَنَّةِ). [خ¦2790]
          وفيه: سَمُرَةُ، قَالَ الرَّسُولُ صلعم: (رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي، فَصَعِدَا بِي الشَّجَرَةَ، فَأَدْخَلانِي دَارًا هِيَ أَحْسَنُ وَأَفْضَلُ، لَمْ أَرَ قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهَا، قَالا: أَمَّا هَذِهِ الدَّارُ، فَدَارُ الشُّهَدَاءِ). [خ¦2791]
          قال المُهَلَّب: تُستَحقُّ الجنَّة بالإيمان بالله ورسوله، وقد روي عن الرَّسول صلعم أنَّه قال: ((ثمن الجنَّة لا إله إلا الله)) وبالشَّهادة والأعمال الصَّالحة تُستَحقُّ الدَّرجات والمنازل في الجنَّة وقوله: (وَسط الجنَّةِ) فيحتمل أن يريد موسطتها، والجنَّة قد حفَّت بها من كلِّ جهة. وقوله: (أَعْلَى الجَنَّة) يريد أرفعها؛ لأنَّ الله تعالى مدح الجنَّات إذا كانت في علوٍّ، فقال: {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ}[البقرة:265]، وقوله: ((مِنْها تفجَّر أَنْهار الجَنَّة)) يريد أنَّها عالية، من الارتفاع.
          قال المؤلِّف: وقوله: (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ، وَأَقَامَ الصَّلاةَ، وَصَامَ رَمَضَانَ، كَانَ حَقًّا على اللهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، جَاهَدَ في سَبِيلِ اللهِ، أَوْ جَلَسَ في أَرْضِهِ) فيه تأنيسٌ لمن حُرِم الجهاد في سبيل الله، فإنَّ له من الإيمان بالله والتزام الفرائض ما يوصله إلى الجنَّة؛ لأنَّها هي غاية الطَّالبين، ومن أجلها تبذل النُّفوس في الجهاد. فلمَّا قيل لرسول الله: (أَفَلا نُبَشِّرُ النَّاسَ) أخبر صلعم بدرجات المجاهدين في سبيله وفضيلتهم في الجنَّة ليُرغِّب أمَّته في مجاهدة المشركين وإعلاء كلمة الإسلام، وهذا الحديث كان قبل فرض الزَّكاة والحجِّ. فلذلك لم يذكرا فيه، والله أعلم.
          وقد روى ابن وهبٍ، عن عبد الرَّحمن بن شريحٍ، عن سهل بن أبي أمامة بن(2) سهل بن حنيفٍ، عن أبيه، عن جدِّه، عن النَّبيِّ ◙ أنَّه قال: ((من سأل الله الشَّهادة بصدق / بلَّغه الله منازل الشُّهداء وإن مات على فراشه)) رواه حمَّاد بن سلمة، عن ثابتٍ، عن أنسٍ، عن النَّبيِّ ◙، وحديث أبي هريرة شبه هذا المعنى؛ لأنَّ قوله صلعم: ((إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى)) خطابٌ لجميع أمَّته يدخل فيه المجاهدون وغيرهم. فدلَّ ذلك أنَّه قد يعطى الله لمن لم يجاهد قريبًا من درجة المجاهد؛ لأنَّ الفردوس إذا كان أعلى الجنَّة ولا درجة فوقه، وقد أمر صلعم جميع أمَّته بطلب الفردوس من الله؛ دلَّ أنَّ من بوَّأه الفردوس وإن لم يجاهد فقد تقارب درجته من درجات المجاهد في العلوِّ وإن اختلفت الدَّرجات في الكثرة، والله يؤتى فضله من يشاء.


[1] قوله ((يقال)) ليس في (ص) والمثبت من المطبوع.
[2] في (ص): ((عن)) والمثبت من المطبوع.