شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب مسح الغبار عن الناس في السبيل

          ░17▒ باب مَسْحِ الْغُبَارِ عَنِ الرَّأْسِ(1) في سَبِيلِ اللهِ
          فيه: ابْنُ عَبَّاسٍ: (قَالَ لابنِهِ ولعِكرِمةَ: ائْتِيَا أَبَا سَعِيدٍ، فَاسْمَعَا مِنْ حَدِيثِهِ، فَأَتَيْنَاهُ وَهُوَ وَأَخُوهُ في حَائِطٍ لَهُمَا يَسْقِيَانِهِ، فَلَمَّا رَآنَا، جَاءَ فَاحْتَبَى وَجَلَسَ، فَقَالَ: كُنَّا نَنْقُلُ لَبِنَ الْمَسْجِدِ لَبِنَةً لَبِنَةً، وَعَمَّارٌ يَنْقُلُ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ، فَمَرَّ بِهِ النَّبي صلعم وَمَسَحَ عَنْ رَأْسِهِ الْغُبَارَ، َفقَالَ: وَيْحَ عَمَّارٍ، يَدْعُوهُمْ إلى اللهِ، وَيَدْعُونَهُ إلى النَّارِ). [خ¦2812]
          قال المُهَلَّب: أمَّا مسح النَّبيِّ صلعم الغبار عن رأس عمَّارٍ، فرضًى من النَّبيِّ صلعم بفعله وشكرًا له على عزمه في ذات الله.
          وقوله: (وَيْحَ عَمَّارٍ) فهي كلمة لا يراد بها في هذا الموضع وقوع المكروه بعمَّارٍ، ولكن المراد بها المدح لعمَّار على صبره وشدَّته في ذات الله، كما تقول العرب للشَّاعر إذا أحسن: قاتله الله ما أشعره، غير مريدين إيقاع المكروه به.
          وقوله: (يَدْعُوهُمْ إلى اللهِ) فيريد _والله أعلم_ أهل مكَّة الذين أخرجوه من دياره وعذَّبوه في ذات الله لدعائه لهم إلى الله. ولا يمكن أن يتأوَّل هذا الحديث في المسلمين البتَّة؛ لأنَّه قد دخلوا دعوة الله، وإنَّما يدعى إلى الله من كان خارجًا من الإسلام.
          وقوله: (وَيَدْعُونَهُ إلى النَّارِ) دليلٌ أيضًا على ذلك؛ لأنَّ المشركين أهل مكَّة إنَّما فتنوه وطالبوه أن يرجع إلى دينهم، فهو النَّار. فإن قيل: إنَّ فتنة عمَّار قد كانت بمكَّة في أوَّل الإسلام، وإنَّما قال: يدعوهم بلفظ المستقبل، وهذا لفظ الماضي. قيل: العرب قد تخبر بالفعل المستقبل عن الماضي إذا عرف المعنى، كما تخبر بالماضي عن المستقبل، فقوله: (يَدْعُوهُمْ إلى اللهِ) بمعنى دعاهم إلى الله؛ لأنَّ محنة عمَّارٍ كانت بمكَّة مشهورةً، فأشار صلعم إلى ذكرها لمَّا طابقت شدَّته في نقله لبنتين شدَّته في صبره بمكَّة على عذاب الله، فضيلةً لعمَّارٍ، وتنبيهًا على ثباته، وقوَّته في أمر الله تعالى.


[1] في (ص): ((الناس)) والمثبت من المطبوع والصحيح.