شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: {فإما منًا بعد وإما فداءً}

          ░150▒ باب: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً}[محمد:4]
          فِيهِ: حَدِيثُ ثُمَامَةَ، وَقَوْلُهُ ╡(1): {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ في الأرْضِ}[الأنفال:67]يَغْلِبَ في الأرْضِ.
          اختلف العلماء في حكم الأسرى من أجل اختلافهم في تأويل قوله: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء}[محمد:4]فقال السُّدِّيُّ وابن جُريجٍ: نسخها قوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ}[التوبة:5]وقال قَتادة: نسخها قوله تعالى: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ}[الأنفال:57] / وقال الطَّبريُّ: روي عن أبي بكر الصِّدِّيق أنَّه قال: لا يفادى بأسير المشركين وإن أعطى فيه كذا وكذا مُدْيًا من مالٍ. قال الزُّهريُّ: كتب عُمَر بن الخطَّاب: اقتلوا كلَّ من جرت عليه المواسي. وهو قول الزُّهريِّ ومجاهدٍ، واعتلُّوا لإنكارهم إطلاق الأسرى بقوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} الآيات[الأنفال:67].
          قالوا: فأنكر الله إطلاق أسارى بدرٍ على نبيِّه على الفداء، فغير جائز لأحدٍ أن يتقدَّم على فعله، وسنَّة الله تعالى في أهل الكفر به إن كانوا من أهل الأوثان، فقتلهم على كلِّ حالٍ؛ لقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ}الآية[التوبة:5].
          وإن كانوا من أهل الكتاب، حتَّى يسلموا أو يعطوا الجزية، فأمَّا إطلاقهم على فداءٍ يؤخذ منهم فتقويةٌ لهم.
          وقال الضَّحَّاك: قوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء}[محمد:4]هي ناسخةٌ لقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ}[التوبة:5]ومثل هذا عن ابن عمر قال: أليس بهذا أمرنا الله؟ قال تعالى: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء}[محمد:4]وهو قول عطاءٍ والشَّعبيِّ والحسن البصريِّ، كرهوا قتل الأسير، وقالوا: مُنَّ عليه أو فاده.
          وبمثل هذا استدلَّ الطَّحاويُّ فقال: ظاهر قوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء}[محمد:4]يقتضي المنَّ أو الفداء ويمنع القتل.
          قالوا: ولو كان لنا من قتلهم بعد الإيثاق ما لنا قبله لم يفهم قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ}[محمد:4]فدلَّ أنَّ حكم الكافر بعد الاستيثاق والأسر خلاف حكمه قبل ذلك، قال أبو عبيدٍ: والقول عندنا في ذلك أنَّ الآيات جميعًا محكماتٌ لا نسخ فيهنَّ، يبيِّن ذلك ما كان من أحكام رسول الله فيهم وذلك أنَّه عمل بالآيات كلِّها من القتل والمنِّ والفداء حتَّى توفَّاه الله على ذلك، فكان أوَّل أحكامه فيهم يوم بدرٍ، فعمل بها كلِّها يومئذٍ، بدأ بالقتل فقتل عقبة بن أبي مُعَيط والنَّضر بن الحارث في قفوله، ثمَّ قدم المدينة فحكم في سائرهم بالفداء، ثمَّ حكَّم يوم الخندق سعد بن معاذ بقتل المقاتلة، وسبي الذُّرِّيَّة، فصوَّب ذلك النَّبيُّ صلعم وأمضاه.
          ثمَّ كانت غزاة بني المصطلق رهط جويرية بنت الحارث فاستحياهم جميعًا وأعتقهم. ثمَّ كان فتح مكَّة فأمر بقتل ابن خَطَلٍ ومِقيَسٍ والقَينتين، وأطلق الباقين، ثمَّ كانت حنينٌ فسبى هوازن، ومَنَّ عليهم، وقتل أبا غرَّة الجمحيَّ يوم أُحدٍ _وقد كان مَنَّ عليه يوم بدر_ وأطلق ثُمامة بن أثَّالٍ. وكانت هذه أحكامه ◙ بالمنِّ والفداء والقتل، فليس شيئًا منها منسوخًا، والأمر فيهم أنَّ الإمام _وهو مخيَّر بين القتل والمنِّ والفداء_ يفعل الأفضل في ذلك للإسلام وأهله، وهو قول مالكٍ والشَّافعيِّ وأحمد وأبي ثورٍ.
          قال المُهَلَّب: وأمَّا قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ}[الأنفال:67]فإنَّ هذه الآية نزلت في أسرى بدرٍ، أخذ فيهم ◙ رأي أبي بكر الصِدِّيق في استحيائهم وقبول الفداء منهم، وكان عمر أشار عليه بقتلهم، وأشار عليه غيره بحرقهم استبلاغًا فيهم، فبات النَّبيُّ صلعم يرى رأيه في ذلك، وكانت أوَّل وقعةٍ أوقعها الله تعالى بالكفَّار، فأراد الله أن يكسر كيدهم بقتلهم، فعاتب النَّبيَّ ◙ وأنزل عليه: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا}[الأنفال:67]يعني: الفدية، {وَاللهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ}[الأنفال:67]أي: إعلاء كلمته، وإظهار دينه بقتلهم.
          وقال ◙: ((لو نزلت آية عذابٍ ما نجا منها إلَّا عمر)) لأنَّهم طلبوا الفداء، وكانت الغنائم محرَمةً عليهم.
          وقال الطَّبريُّ: في قوله ◙: ((لو نزلت آية عذابٍ ما نجا منها غير عمر)) وفي قوله: {لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[الأنفال:68]إن قيل: كيف استحقُّوا هذه اللَّائمة العظيمة؟ قال الطَّبريُّ: إنَّ النَّبيَّ صلعم ومن شهد معه بدرًا لم يخالفوا أمر ربِّهم فيستوجبوا اللَّائمة، وإنَّ الذين / اختاروا فداء الأسرى على قتلهم اختاروا أوهنَ الرَّأيين في التَّدبير على أحزمهما وأقلَّهما نكايةً في العدوِّ، فعاتبهم الله على ذلك، وأخبرهم أنَّ الأنبياء قبل محمَّدٍ لم تكن الغنائم لهم حلالًا، فكانوا يقتلون من حاربوا ولا يأسرونه على طلب الفداء، {لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللهِ سَبَقَ}[الأنفال:68]لولا قضاؤه أنَّه يحلَّ لكم الغنيمة ولا يعذِّب من شهد بدرًا {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ}[الأنفال:68]من الفداء {عَذَابٌ عَظِيمٌ}[الأنفال:68].
          وفي حديث ثُمامة من الفقه جواز المنِ على الأسير بغير مالٍ، وهو قول مالكٍ والشَّافعيِّ وأحمد وأبي ثورٍ، وقالوا: لا بأس أن يفادى بأسرى المسلمين وبالمال أيضًا.
          وقال الطَّحاويُّ: اختلف قول أبي حنيفة في هذه المسألة، فروي عنه أنَّ الأسرى لا يفادون ولا يردُّون حربًا؛ لأنَّ في ذلك قوَةً لأهل الحرب، وإنَّما يفادون بالمال وبما سواه ممَّا لا قوَّة لهم فيه، وروي عنه أنَّه لا بأس أن يفادى بالمشركين أسارى المسلمين، وهو قول أبي يوسف ومحمَّدٍ، قال ابن القصَّار: وممَّا يُرَدُّ به على أبي حنيفة أنَّا اتَّفقنا معه أنَّ مكَّة فتحت عنوةً. وأنَّ نبيَّ الله مَنَّ عليهم بغير شيءٍ كما فعل بثُمامة.


[1] قوله: ((قوله ╡)) ليس في (ص) والمثبت من المطبوع.