شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب فداء المشركين

          ░172▒ باب: فِدَاءِ المشْرِكِينَ
          فيه: أَنَسٌ: (أَنَّ رِجَالا مِنَ الأنْصَارِ اسْتَأْذَنُوا النَّبيَّ صلعم فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، ائْذَنْ لَنَا فَلْنَتْرُكْ لابْنِ أُخْتِنَا الْعَبَّاس فِدَاءَهُ، فَقَالَ: لا تَدَعُونَ مِنْهَا دِرْهَمًا، وَقَالَ أَنَسٍ: أُتِيَ صلعم بِمَالٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ، فَجَاءَهُ الْعَبَّاسُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَعْطِنِي فَإِنِّي فَادَيْتُ نَفْسِي، وَفَادَيْتُ عَقِيلا، فَقَالَ: خُذْ، فَأَعْطَاهُ في ثَوْبِهِ). [خ¦3048]
          وفيه: جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ، وَكَانَ جَاءَ في أُسَارَى بَدْرٍ قَالَ: (سَمِعْتُ النَّبيَّ صلعم يَقْرَأُ في الْمَغْرِبِ: والطُّور). [خ¦3050]
          قال المُهَلَّب: أسر العبَّاس يوم بدرٍ، وكان غنيًّا ففدى نفسه من القتل، وفدى عقيلًا بمالٍ، ثمَّ بقي على حاله بمكَّة إلى زمن خيبرٍ، وقيل: إنَّه أسلم سنة ثمانٍ قبل الفتح، وإنَّما سأل الأنصار الذين أسروا العبَّاس أن يتركوا فداءه بمكان عمومه من النَّبيِّ صلعم إكرامًا للنَّبيِّ بذلك، فأبى صلعم من ذلك، وأراد توهين المشركين بالغرم، وأن تضعف قوَّتهم بأخذ المال منهم.
          وقيل: إنَّه كان يداين في ذلك العبَّاس، وبقي عليه الدَّين إلى وقت إسلامه، ولذلك قال للنَّبيِّ: (أَعطِنِي؛ فَإنِّي فَادَيتُ نَفسِي وَفادَيتُ عَقِيلًا)، فغرم النَّبيُّ صلعم ما تحمَّله العبَّاس من ذلك بعد إسلامه ممَّا أفاء الله على رسوله، والتَّرجمة صحيحةٌ في جواز مفاداة المشركين من أيدى المسلمين، وأنَّ ذلك مباحٌ بعد الإثخان، ومفاداة العبَّاس لنفسه ولعقيلٍ كان قبل الإثخان، فعاتب الله نبيَّه على ذلك فلا تجوز المفاداة إلَّا بعد الإثخان، وقلَّة قوَّة المشركين على المسلمين، أو لوجهٍ من وجوه الصَّلاح يراه الإمام للمسلمين في ذلك.
          وكذلك حديث جبير بن مطعمٍ فيه جواز فداء الأسرى المشركين؛ لأنَّ جبيرًا جاء في فداء أسارى بني نوفل رهطه، فأطلقوا له بالفداء، وكان ذلك قبل الإثخان أيضًا، وقد تقدَّم اختلاف العلماء في فداء الأسرى أو المنِّ عليهم أو قتلهم في باب {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء}[محمد:4]. [خ¦3017بعد]
          وقال أبو عبد الله بن أبي صُفرة: لم يأذن الرَّسول صلعم للأنصار في أسرى بدرٍ لكفرهم، وشدَّة وطأتهم، ألا ترى أنَّه عوتب في الفداء حتَّى يثخن في الأرض، فكيف يأذن في تركه(1) حتَّى يثخن أدبًا لهم، وإن كانت الأنصار قد طابت أنفسها، وشفع لأهل هوازن للرَّضاع الذي كان له فيهم، كما مَنَّ على أهل مكَّة بإسلامهم وتركه مكَّة بما فيها من جميع الأموال للرَّحم.


[1] صورتها في (ص): ((ترك)) والمثبت من التوضيح.