شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب السبق بين الخيل

          ░56▒ باب: السَّبْقِ بَيْنَ الْخَيْلِ.
          فيه: ابْنُ عُمَرَ: (أَجْرَى النَّبيُّ صلعم مَا ضُمِّرَ مِنَ الْخَيْلِ مِنَ الْحَفْيَاءِ إلى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ، وَأَجْرَى مَا لَمْ يُضَمَّرْ مِنَ الثَّنِيَّةِ إلى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ، وَكُنْتُ فِيمَنْ أَجْرَى). [خ¦2868]
          قَالَ سُفْيَانُ: بَيْنَ الْحَفْيَاءِ إلى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ خَمْسَةُ أَمْيَالٍ أَوْ سِتَّةٌ، وَبَيْنَ الثَنِيَّةَ إلى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ مِيلٌ.
          وترجم له باب: غاية السَّبق للخيل المضمَّرة.
          وقال ابن عقبة: ستَّة أميالٍ أو سبعةٌ.
          قال المؤلِّف: جعل بعض النَّاس المسابقة بين الخيل سنَّةً، وجعلها بعضهم إباحةً، والإضمار للخيل أن يدخل الفرس في البيت يجلَّل عليه بجلٍّ ليكثر عرقه وينتقص من علفه لينقص لحمه فيكون أقوى على الجري.
          وفيه جواز المسابقة بين الخيل وذلك ممَّن خصَّ وخرج من باب القمار بالسُّنَّة، وكذلك هو خارجٌ من تعذيب البهائم؛ لأنَّ الحاجة إليها تدعو إلى تأديبها وتدريبها.
          وفيه تجويع البهائم على وجه الصَّلاح عند / الحاجة إلى ذلك.
          وفيه أنَّ المسابقة بين الخيل يجب أن يكون أمرها معلومًا، وأن تكون الخيل متساوية الأحوال أو متقاربةً، وألَّا يسابق المضمَّر مع غير المضمَّر، وهذا إجماعٌ من العلماء؛ لأنَّ صبر الفرس المضمَّر المُجَوَّع في الجري أكثر من صبر المعلوف فلذلك جُعلت غاية المضمَّرة ستَّة أميالٍ أو سبعةً، وجعلت غاية المعلوفة ميلًا واحدًا.
          واختلف العلماء في صفة المسابقة، فقال سعيد بن المسيِّب: ليس برهان بأسٍ إذا أُدخِل فيها محلِّلٌ لا يأمنان أن تسبق؛ فإن سبق أخذ السَّبق وإن سُبق لم يكن عليه شيءٌ. وبهذا قال الزُّهريُّ والأوزاعيُّ والشَّافعيُّ وأحمد وإسحاق قالوا: إذا دخل فرسٌ بين فرسين وقد أمن أن يسبق فهو قمارٌ لا يجوز.
          وقال مالكٌ: ليس عليه العمل. وفسَّر العلماء قول سعيدٍ أنَّ معنى دخول المحلِّل بينهم للخروج عن معنى القمار المحرَّم فيجعل عنده كلَّ واحدٍ من المتراهنين سيفًا، فمن سبق منهما أخذ السَّيفين جميعًا، وكذلك إن سبق المحلِّل أخذهما وإن سبق لم يؤخذ منه شيءٌ، ولا يقول مالكٌ بالسَّبق، فالمحلِّل إنَّما يجوز عنده أن يجعل الرَّجل سيفه ولا يرجع إليه بكلِّ حالٍ كسبق الإمام، فمن سبق كان له وإن أجري جاعل السَّبق معهم فسبق هو كان للمصلِّي وهو الذي يليه إن كانت خيلًا كثيرةً، وإن كانا فرسين فسبق جاعل السَّبق فهو طعمةٌ لمن حضر، وإن سبق الآخر أخذه، وهو قول ربيعة وابن القاسم.
          وروى ابن وهب عن مالكٍ أنَّه أجاز أن يشترط واضع السَّبق إن سبق أخذ السَّبق، وإن سبق هذا أخذ سبقه وبه أخذ أصبغ وابن وهبٍ.
          قال ابن الموَّاز: وكراهة مالكٍ المحلِّل إنَّما هو على قوله: إنَّه يجب إخراج السَّبق بكلِّ حالٍ، وهو قول ابن المسيِّب وابن شهابٍ.
          وقال أبو حنيفة والثَّوريُّ والشَّافعيُّ: الأسباق على ملك أربابها وهم فيها على شروطهم، ولا يجوز أن يملك السَّبق إلَّا بالشَّرط المشروط فيه وإن لم يكن ذلك انصرف السَّبق إلى من جعله.
          وقال محمَّد بن الحسن وأصحابه: إذا جعل السَّبق واحدٌ فقال: إن تسبقني فلك كذا، ولم يقل: إن سبقتك فعليك كذا، فلا بأس به، ويكره أن يقول: إن سبقتك فعليك كذا، وإن سبقتني فعليَّ كذا، هذا لا خير فيه. وإن قال رجلٌ غيرهما: أيُّكما سبق فله كذا. فلا بأس به، وإن كان بينهما محلِّلٌ إن سبق لم يغرم، وإن سبق أخذ فلا بأس به، وذلك إذا كان يَسبق ويُسبق. قالوا: وما عدا هذه الأشياء فهو قمارٌ.