شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: هل للأسير أن يقتل ويخدع الذين أسروه حتى ينجو من الكفرة؟

          ░151▒ باب: هَلْ لِلأسِيرِ أَنْ يَقْتُلَ أوَ يَخْدَعَ الَّذِينَ أَسَرُوهُ حَتَّى يَنْجُوَ مِنَ الْكَفَرَةِ
          فيه: الْمِسْوَرُ عَنِ النَّبيِّ ╕.
          قال المؤلِّف: يريد حديث: صَالَحَ النَّبيُّ ◙، المشركين بالحديبية، على أن يردُّوا من هرب إليهم مسلمًا، فهرب أبو بصيرٍ إلى النَّبي، فأرسلوا في طلبه رجلين إلى النَّبيِّ صلعم؛ وقالوا: العهد الذى جعلت لنا، فدفعه إلى الرَّجلين، فخرجا به حتَّى بلغا ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمرٍ لهم، فقال أبو بصيرٍ لأحد الرَّجلين: والله إنِّي لأرى سيفك يا فلان جيِّدًا فاستلَّه الآخر، وقال: أجل، والله إنَّه لجيِّدٌ، لقد جرَّبت به، ثمَّ جرَّبت. فقال له أبو بصيرٍ: أرني أنظر إليه، فأمكنه منه فضربه به حتَّى برد، وفرَّ الآخر حتَّى أتى المدينة، فدخل المسجد يعدو، فقال الرَّسول صلعم حين رآه: ((لقد رأى هذا ذعرًا))، فجاء أبو بصيرٍ، فقال: يا نبيَّ الله، قد أوفى الله بذمَّتك ورددتني إليهم، ثمَّ أنجاني الله منهم. فقال ◙: ((ويل أمِه مسعر حربٍ، لو كان له أحدٌ)). فلمَّا سمع ذلك عرف أنَّه سيردُّه، فخرج حتَّى أتى سِيف البحر، ولحق به أبو جندلٍ، وكلُّ من أسلم من قريشٍ، حتَّى اجتمعت منهم عصابةٌ، وكانوا لا يسمعون بعيرٍ خرجت لقريشٍ إلَّا قتلوهم، وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريشٌ إلى النَّبيِّ صلعم تناشده الله والرَّحم، فمن أتاه منهم فهو آمنٌ، فأنزل الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ}[الفتح:24]وذكر الحديث.
          اختلف العلماء في الأسير، هل له أن يقتل المشركين أو يخدعهم حتَّى ينجو منهم، فقالت طائفةٌ من العلماء: لا ينبغي للأسير المقام بدار الحرب إذا أمكنه الخروج، وإن لم يتخلَّص منهم إلَّا بقتلهم، وأخذ أموالهم، وإحراق دورهم فعل ما شاء من ذلك، وهو قول أبي حنيفة والطَّبريِّ، وقال أشهب: إن خرج به العِلْج في الحديد ليفادي به، فله أن يقتله إن أمكنه ذلك وينجو.
          واختلفوا إذا أمَّنوه، وعاهدهم ألَّا يهرب، فقال الكوفيُّون: إعطاؤه العهد على ذلك باطلٌ. وقال الشَّافعيُّ: له أن يخرج ولا يأخذ شيئًا من أمولهم؛ لأنَّه قد أمَّنهم بذلك كما أمَّنوه. وقال مالكٌ: إن عاهدهم على ذلك فلا يجوز أن يهرب إلَّا بإذنهم. وهو قول سَحنون وابن الموَّاز، قال ابن الموَّاز: وهذا بخلاف إذا أجبروه ألَّا يهرب بطلاقٍ أو عتاقٍ، أنَّه لا يلزمه، وذلك لأنَّه مكرهٌ. ورواه أبو زيدٍ عن ابن القاسم.
          وقال غيره: لا معنى لقول من فرَّق بين يمينه وعهده ألَّا يهرب؛ لأنَّ حالته حال المكره حلف لهم أو وعدهم أو عاهدهم، سواءٌ أمَّنوه أو أخافوه؛ لأنَّ الله فرض على / المؤمن ألَّا يبقى تحت أحكام الكفَّار، وأوجب عليه الهجرة من دارهم، فخروجه على كلِّ وجه جائزٌ، والحجَّة في ذلك خروج أبي بصيرٍ، وتصويب(1) الرَّسول صلعم فعله ورضاه.


[1] قوله: ((وتصويب)) ليس في (ص) ولا المطبوع والمثبت من كتاب التوضيح ليستقيم الكلام.