شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب من قاد دابة غيره في الحرب

          ░52▒ باب: مَنْ قَادَ دَابَّةَ غَيْرِهِ في الْحَرْبِ
          فيه: الْبَرَاءُ: قيل له: (أَفَرَرْتُمْ عَن النَّبيِّ صلعم يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ قَالَ: لَكِنَّ رَسُولَ اللهِ لَمْ يَفِرَّ، إِنَّ هَوَازِنَ كَانُوا قَوْمًا رُمَاةً وَإِنَّا لَمَّا لَقِينَاهُمْ حَمَلْنَا عَلَيْهِمْ فَانْهَزَمُوا، فَأَقْبَلَ الْمُسْلِمُونَ على الْغَنَائِمِ، وَاسْتَقْبَلُونَا بِالسِّهَامِ، فَأَمَّا رَسُولُ اللهِ صلعم فَلَمْ يَفِرَّ، فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ وَإِنَّهُ لَعَلى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ، وَإِنَّ أَبَا سُفْيَانَ آخِذٌ بِلِجَامِهَا، والنَّبيُّ صلعم يَقُولُ:
أَنَـا النَّبيُّ لا كَـذِبْ                     أَنَـا ابْـنُ عَبْدِ الْمُطَّلِـبْ).
          [خ¦2864]
          قال المُهَلَّب: فيه خدمة السُّلطان في الحرب وسياسة دابَّته لأشراف النَّاس من قرابته وغيرهم.
          وفيه جواز الأخذ بالشِّدَّة والتَّعرُّض إلى الهلكة في سبيل الله؛ لأنَّ النَّاس فرُّوا عن رسول الله ولم يبق إلَّا مع اثني عشر رجلًا، والمشركون في أضعافهم عددًا مرارًا كثيرةً، فلزموا مكانهم ومصافَّهم، ولم يأخذوا بالرُّخصة من الفرار.
          وفيه ركوب البغال في الحرب للإمام ليكون أثبت له ولئلَّا يظنَّ به الاستعداد للفرار والتَّولية، ومن باب السِّياسة لنفوس الأتباع؛ لأنَّه إذا ثبت ثبت أتباعه، وإذا رئي منه العزم على الثَّبات عُزم معه عليه.
          وفيه جواز الفخر والنَّدابة عند القتال.
          وفيه إثبات النُّبوَّة؛ لأنَّه قال: (أَنَا النَّبيُّ لَا كَذِبْ). أي: ليس أنا بكاذبٍ فيما أقول؛ فيجوز عليَّ الانهزام، وإنَّما ينهزم من ليس على يقينٍ من النُّصرة وهو على يقينٍ من الغرَّة وهو على خوفٍ من الموت، والنَّبي ُّصلعم على يقين / من النَّصر بما أوحى الله إليه في كتابه وأعلمه أنَّه لا بدَّ له من كمال هذا الأمر، فمن زعم بعد هذا أن الرَّسول صلعم ينهزم فقد رماه بأنَّه كذَّب وحي الله أنَّ الله يعصمه من النَّاس فارتاب وإلَّا قتل؛ لأنَّه كافرٌ إن لم يتأوَّل ويعذر بتأويله، وسأشبع القول في معنى هذا الحديث في باب من صفَّ أصحابه عند الهزيمة ونزل عن دابَّته واستنصر بعد هذا إن شاء الله. [خ¦2930]