شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب من صف أصحابه عند الهزيمة ونزل عن دابته واستنصر

          ░97▒ باب: مَنْ صَفَّ أصحابَهُ عِندَ الهَزِيمَةِ ونَزلَ عَنْ دَابَّتِهِ واستَنصَرَ
          فيه: الْبَرَاءُ سَأَلَهُ رَجُلٌ: أَفَرَرْتُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ قَالَ: (وَاللهِ مَا وَلَّى النَّبيُّ صلعم وَلَكِنْ خَرَجَ شُبَّانُ أَصْحَابِهِ وَخِفَافُهُمْ حُسَّرًا لَيْسَ بِسِلاحٍ، فَأَتَوْا قَوْمًا رُمَاةً جَمْعَ هَوَازِنَ وَبَنِي نَصْرٍ، مَا يَكَادُ لَهُمْ يَسْقُطُ سَهْمٌ، فَرَشَقُوهُمْ رَشْقًا مَا يَكَادُوا يُخْطِئُونَ، فَأَقْبَلُوا هُنَالِكَ إلى الرَّسولِ ◙ وَهُوَ على بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ وَابْنُ عَمِّهِ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَقُودُ بِهِ فَنَزَلَ وَاسْتَنْصَرَ، ثُمَّ قَالَ:
أَنَـا النَّبي لا كَـذِبْ                     أَنَـا ابْـنُ عَبْدِ الْمُطَّلِـبْ
          ثُمَّ صَفَّ أَصْحَابَهُ). [خ¦2930]
          قال المُهَلَّب: فيه التَّرجمة، وتثبيت من بقي مع الإمام، ونزول الرَّسول صلعم عن بغلته إنَّما كان لتثبيت الرَّجَّالة الباقين معه، وليتأسَّوا به في استواء الحال، فكذلك يجب على كلِّ إمامٍ إذا ولَّى أصحابه وبقي في قلَّةٍ منهم إن أخذ على نفسه بالشِّدَّة أن يفعل ما فعل صلعم من النُّزول، وإن لم يكن له نيَّةٌ يأخذ بالشِّدَّة، فليكن انهزامه يتحيَّز مع فئةٍ من قومه إلى فئةٍ أخرى يروم تثبيتهم، وهذا الحديث يبيِّن أنَّ المنهزمين يوم حنينٍ لم يكونوا جميع الصَّحابة وأنَّ بعضهم بقي / مع النَّبيِّ صلعم غير منهزمين.
          قال الطَّبريُّ: وفيه البيان عمَّا خصَّ الله به نبيَّنا محمَّدًا ◙ من الشَّجاعة والنَّجدة؛ وذلك أنَّ أصحابه انفلُّوا فانهزموا من عدوِّهم حتَّى ولَّوا عنهم مدبرين، كما وصفهم في كتابه: {ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ}[التوبة:25]فكان أصحابه وهم زهاء عشرة آلافٍ أو أكثر مدبرين انهزامًا من المشركين وهو في نفرٍ من أهله قليلين متقدِّمٌ تلقاء العدوِّ وقتالهم جاد في النظر نحوهم، غير مستأخرٍ، غير مدبرٍ، والعدوُّ من العدد في مثل السَّيل واللَّيل.
          فإن قيل: قد انهزم من أصحاب النَّبيِّ صلعم من انهزم عنه، والفرار من الزَّحف كبيرةٌ، فكيف فعل ذلك أصحابه؟
          قال الطَّبريُّ: والجواب أنَّ الفرار المكروه الذي وعد الله عليه الانتقام: الانهزام على نيَّة ترك العود لقتالهم إذا وجدوا قوَّةً.
          وأمَّا الاستطراد للكرَّة أو التَّحيُّز إلى فئةٍ عند قهر العدوِّ المسلمين لمكيدةٍ أو كثرة عددٍ فليس ذلك من الفرار الذي توعَّد الله المؤمنين عليه، ولو كان ذلك فرارًا لكان القوم يوم حنينٍ قد استحقُّوا من الله الوعيد وذلك أنَّه تعالى أخبر عنهم أنَّهم ولَّوا مدبرين بقوله: {وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ}[التوبة:25]فولَّوا عن رسول الله وهم أكثر ما كانوا عددًا وأتمُّ سلاحًا، لم يوجب لهم غضبه بل قال: {ثُمَّ أَنَزلَ اللهُ سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وعلى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا}[التوبة:26]ولو كان إدبارهم يومئذٍ على غير التَّحرُّف للقتال أو التَّحيُّز إلى فئةٍ؛ لكانوا قد استحقُّوا وعيده تعالى.
          وبمثل ما قلناه قال السَّلف، روى داود، عن أبي نضرة، عن أبي سعيدٍ في قوله تعالى: {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ}[الأنفال:16]قال: كان ذلك يوم بدرٍ ولم يكن لهم يومئذٍ أن ينحازوا، ولو انحازوا لانحازوا إلى المشركين ولم يكن يومئذٍ مسلمٌ على وجه الأرض غيرهم، وقال الضَّحَّاك: إنَّما كان الفرار يوم بدرٍ ولم يكن لهم ملجأٌ يلجئون إليه، وأمَّا اليوم فليس فرارٌ. وقال ابن أبي نَجِيْح، عن مجاهدٍ، قال عمر بالمدينة: وأنا فئة كلِّ مسلمٍ. وسئل الحسن البصريُّ عن الفرار من الزَّحف فقال: والله لو أنَّ أهل سَمَرقَند انحازوا إلينا لكنَّا فئتهم.