شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب من رأى العدو فنادى بأعلى صوته يا صباحاه حتى يسمع الناس

          ░166▒ باب: مَنْ رَأَى العَدُوَّ فَنَادَى بِصَوْتِهِ يَا صَبَاحَاهْ حَتَى يُسْمِعَ النَّاسَ
          فيه: سَلَمَةُ: (خَرَجْتُ مِنَ الْمَدِينَةِ ذَاهِبًا نَحْوَ الْغَابَةِ، حَتَّى إِذَا كُنْتُ بِثَنِيَّةِ الْغَابَةِ لَقِيَنِي غُلامٌ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، فَقُلْتُ: وَيْحَكَ، مَا بِكَ؟ قَالَ: قَدْ أُخِذَتْ لِقَاحُ النَّبيِّ صلعم قُلْتُ: مَنْ أَخَذَهَا؟ قَالَ: غَطَفَانُ وَفَزَارَةُ، فَصَرَخْتُ ثَلاثَ صَرَخَاتٍ، / أَسْمَعْتُ مَا بَيْنَ لابَتَيْهَا: يَا صَبَاحَاهْ، يَا صَبَاحَاهْ، ثُمَّ انْدَفَعْتُ حَتَّى أَلْقَاهُمْ، وَقَدْ أَخَذُوهَا، فَجَعَلْتُ أَرْمِيهِمْ، وَأَقُولُ:
أَنَـا ابْـنُ الأكْـوَعِ                     وَالْيَـوْمُ يَـوْمُ الرُّضَّـعْ
          فَاسْتَنْقَذْتُهَا مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ يَشْرَبُوا، فَأَقْبَلْتُ بِهَا أَسُوقُهَا، فَلَقِيَنِي النَّبيُّ صلعم فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ الْقَوْمَ عِطَاشٌ، وَإِنِّي أَعْجَلْتُهُمْ أَنْ يَشْرَبُوا سِقْيَهُمْ، فَابْعَثْ في إِثْرِهِمْ، فَقَالَ: يَا ابْنَ الأكْوَعِ مَلَكْتَ فَأَسْجِحْ، إِنَّ الْقَوْمَ يُقْرَوْنَ في قَوْمِهِمْ). [خ¦3041]
          قال المُهَلَّب: فيه وجوب النَّذير بالعسكر والسَّريَّة بالصُّراخ بكلمة تدلُّ على ذلك.
          وقوله: (يَا صَباحَاهْ) معناه: قد أغير عليكم في الصَّباح، أو قد صوبحتم فخذوا حذركم. وفيه جواز الأخذ بالشِّدَّة، ولقاء الواحد أكثر من المثلين؛ لأنَّ سلمة كان وحده، وألقى بنفسه إلى التَّهلكة، وفيه تعريف الإنسان بنفسه في الحرب شجاعته وتقدُّمه. وسيأتي في الباب بعد هذا زيادةٌ في ذلك، [خ¦56/167-4758] وفيه فضل الرِّماية؛ لأنَّه وحده قاومهم بها وردَّ الغنيمة.
          وقوله: (وَاليَومُ يَومُ الرُّضَعْ) فيه أقوالٌ للعلماء: قيل: معناه أنَّ من أرضعته الحرب من صغره فهو الظَّاهر، وقيل: معناه أنَّ اليوم يعرف من رضع كريمةً أو من رضع لئيمةً، فيبدو فعله في الدَّفع عن حريمه.
          وقال الخطَّابيُّ: معناه أنَّ اليوم يوم هلاك اللِّئام من قولهم: لئيمٌ راضعٌ(1)، وهو الذي يرضع الغنم لا يحلبها، فيُسمِع صوت الحلب.
          وقوله: (فَاسْتَنقَذتُها مِنهُم قَبلَ أَنْ يَشرَبُوا) يعني: الماء، وعلى ذلك يدلُّ قوله: (إنَّ القومَّ عِطاشٌ) يحضُّه على اتِّباعهم وإهلاكهم، فقال له صلعم: (مَلَكتَ فَأَسْجِحْ) أي: استنقذت الغنيمة فملكتها وملكت الحماية فأسجح، أي: ارفق ولا تبالغ في المطالبة، فربَّما عادت عليك كسرةٌ من حيث لا تظنُّ، فبعد أن كنت ظفرت يُظفَر بك، وقال ذلك صلعم رجاء توبةٍ منهم، ودخولٍ في الإسلام.
          وقوله: (إِنَّ القَومَ يُقرَونَ) يعني: أنَّهم سيلقون أوَّل بلادهم فيُطعَمون ويُسقَون قبل أن تبلغ منهم ما تريد، ومن روى (يَقرُون) جعل القِرى لهم أنَّهم يضيفون الأضياف، فراعى لهم صلعم حقَّ ذلك ورجا أن يتوب الله عليهم.


[1] في (ص): ((أرضع)) وفي المطبوع: ((رضع)) والمثبت من غريب الحديث للخطابي: 1/580.