شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب التحنط عند القتال

          ░39▒ باب التَّحَنُّطِ عِنْدَ الْقِتَالِ.
          فيه: مُوسَى بْنُ أَنَسٍ: (قَالَ _وَذَكَرَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ_ قَالَ: أَتَى أَنَسٌ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ، وَقَدْ حَسَرَ عَنْ فَخِذَيْهِ، وَهُوَ يَتَحَنَّطُ، فَقَالَ: يَا عَمِّ، مَا يَحْبِسُكَ أَنْ لا تَجِيءَ؟ قَالَ: الآنَ يَا ابْنَ أَخِي، وَجَعَلَ يَتَحَنَّطُ _يعني: مِنَ الْحَنُوطِ_ ثُمَّ جَاءَ فَجَلَسَ، فَذَكَرَ في الْحَدِيثِ انْكِشَافًا مِنَ النَّاسِ، فَقَالَ: هَكَذَا عَنْ وُجُوهِنَا حَتَّى نُضَارِبَ الْقَوْمَ، مَا هَكَذَا نَفْعَلُ مَعَ رَسُولِ اللهِ، بِئْسَ مَا عَوَّدَتْكُمْ أَقْرَانُكُمْ). [خ¦2845]
          قال المُهَلَّب: فيه الأخذ بالشِّدَّة في استهلاك النَّفس وغيرها في ذات الله، وترك الأخذ بالرُّخصة لمن قدر عليها؛ لأنَّها لا يخلو أن تكون الطَّائفة من المسلمين التي غزت اليمامة أكثر منهم أو أقلَّ، فإن كانوا أكثر فلا يتعيَّن الفرض على أحدٍ بعينه أن يستهلك نفسه فيه، وإن كانوا أقلَّ وهو المعروف في الأغلب أن لا يغزو جيشٌ أحدًا في عقر داره إلَّا وهم أقلُّ من أهل الدَّار، فإذا كان هكذا فالفرار مباحٌ، وإن تعذَّر معرفة الأكثر من الفريقين فإنَّ الفارَّ لا يكون عاصيًا إلَّا باليقين أنَّ عدوَّهم مثلان فأقلُّ، وما دام الشَّكُّ فالفرار مباح للمسلمين. وفيه أنَّ التَّطيُّب للحرب سنَّة من أجل مباشرة الملائكة للميِّت.
          وفيه اليقين بصحَّة ما هو عليه من الدِّين، وصحَّة النِيَّة بالاغتباط في استهلاك نفسه في طاعة الله.
          وفيه التَّداعي للقتال فإن أنسًا قال لعمِّه: (مَا يَحبِسُكَ ألَّا تَجِيءَ).
          ومعنى قوله: (بِئْسَ مَا عَوَّدَتْكُمْ أَقْرَانُكُمْ) يعني: العدوَّ، في تركهم اتِّباعكم قبلكم(1) حتَّى اتَّخذتم الفرار عادةً للنَّجاة، وطلب الراَّحة من مجالدة الأقران.


[1] كذا في (ص) والمطبوع ولعل الصواب: ((وقلتكم)).