شرح الجامع الصحيح لابن بطال

[أبواب السهو]

          ░░22▒▒
          ░1▒ بابُ: مَا جَاءَ فِي السَّهْوِ(1) إِذَا قَامَ مِنْ رَكْعَتَيِ الفَرْضِ.
          فيهِ: ابنُ بُحَيْنَةَ أَنَّهُ قَالَ: (صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللهِ صلعم رَكْعَتَيْنِ مِنْ بَعْضِ الصَّلَوَات، ثمَّ قَامَ فَلَمْ يَجْلِسْ، فَقَامَ النَّاس مَعَهُ، فَلَمَّا قَضَى صَلاتَهُ وَنَظَرْنَا تَسْلِيمَهُ كَبَّرَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، وَهُوَ جَالِسٌ ثمَّ سَلَّمَ). [خ¦1224]
          ورواه يَحْيَى بنُ سَعِيدِ عَنِ الأعْرَجِ وذكر أنَّها كانت صلاة الظُّهْر.
          واختلف(2) العلماء فيمن قام من اثنتين(3) ساهيًا،(4) يرجع إلى الجُلُوس؟ فقالت طائفةٌ بحديث ابنِ بُحَيْنَةَ: إذا استَتَمَّ قَائِمًا، واستَقَلَّ مِنَ الأَرْضِ فلَا يَرْجِعْ، وليَمْضِ في صَلَاتِهِ، وإِنْ لمْ يَسْتَوِ قائمًا جَلَسَ. ورُوِيَ(5) ذلك عن عَلْقَمَةَ وقَتَادَةَ وعبدِ الرَّحمنِ بنِ أبي ليلى، / وهو قول الأوزاعيِّ وابنِ القاسِمِ في «المدوَّنة» والشَّافعيِّ.
          وقالت طائفةٌ: إذا فارقت أليته(6) الأرض وإن لم يعتدل(7) فلا يرجع ويتمادى، ويسجد قبل السَّلام، رواه ابنُ القاسِمِ عن مالكٍ في «المجموعة».
          وقالت طائفةٌ: يقعد وإن كان استَتَمَّ قائمًا، رُوِيَ ذلك عن النُّعْمَانِ بنِ بَشِيْرٍ والنَّخَعيِّ والحَسَنِ البَصْرِيِّ، إلَّا أنَّ النَّخَعيَّ قال: يجلس ما لم يفتتح القراءة. وقال الحَسَنُ: ما لم يركع. وفي «المدوَّنة» لابنِ القاسِمِ قال: إن أخطأ فرجع بعد أن قام سجد بعد السَّلام.
          وقال أَشْهَبُ وعليُّ بنُ زيادٍ: قبل السَّلام، لأنَّه قد وجب عليه السُّجُود في حين قيامِه، ورُجُوعه إلى الجُلُوس زيادةٌ، وعلَّة الَّذين قالوا: يقعد، وإن استَتَمَّ قائمًا القياس(8) على إجماع الجميع أنَّ المُصَلِّي لو نسي الرُّكُوع(9) مِن صلاته وسجد، ثمَّ ذكر وهو ساجد أنَّ عليه أن يقوم حتَّى يركع، فكذلك حكمه إذا نسي قعودًا في موضع قيام حتَّى قام أنَّ عليه أن يعود له إذا ذكره.
          قال الطَّبَريُّ: والصَّوَاب قول من قال: إذا استوى قائمًا يمضي في صلاته ولا يقعد، فإذا فرغ سجد سجدتي السَّهو، لحديث ابنِ بُحَيْنَةَ: أنَّ النَّبيَّ صلعم حينَ اعتدلَ قائمًا، مِن أن يذكر(10) بنفسه أو يذكِّره مَن خلفَه بالتَّسبيح، وأيُّ الحالين كان فلم ينصرف النَّبيُّ صلعم إلى الجُلُوس بعد قيامه، وقد رُوِيَ عن عُمَرَ(11) بنِ الخطَّابِ وابنِ مَسْعُودٍ ومُعَاوِيَةَ وسَعِيدٍ(12) والمغيرةَ بنِ شُعْبَةَ وعُقْبَة بنِ عامرٍ ♥، أنَّهم قاموا من اثنتين، فلمَّا ذُكِّروا بعد القيام لم يجلسوا، وقالوا: أنَّ النَّبيَّ(13) صلعم كان يفعل ذلك.
          وفي قول أكثر العلماء: أنَّه من رَجَعَ إلى الجُلُوس بعد قيامه من اثنتين أنَّه(14) لا تفسد صلاته إلَّا ما ذكر ابنُ أبي زيدٍ عن سَحْنُونَ أنَّه قال(15): أفسد الصَّلاة برُجُوعه.
          والصَّواب قول الجماعة، لأنَّ الأصل ما فعله، وترك الرُّجُوع رخصةٌ وتنبيهٌ أنَّ الجلسة الأولى لم تكن فريضةً لأنَّها لو كانت فريضةٌ لرَجَعَ النَّبيُّ صلعم(16) وقد سجد عنها، فلم(17) يقضها، والفرائض لا ينوب عنها سُجُودٌ ولا غيره، ولا بدَّ من قضائها في العمد والسَّهو(18). وقد شذَّت فرقةٌ فأوجبت(19) الأولى فرضًا، وقالوا: هي مخصوصةٌ من بين سائر فروض الصَّلاة بأن ينوب عنها سُجُود السَّهو(20) كالعرايا من المُزَابَنَة، وكالوقوف بعد الإحرام لمن وجد الإمام راكعًا(21)، لا يُقاس عليها شيء من أعمالِ البرِّ(22) في الصَّلاةِ.
          ومنهم من قال: هي فرضٌ، وأوجب(23) الرُّجُوع إليها ما لم يعمل المُصَلِّي بعدها ما يمنعه من الرُّجُوع إليها، وذلك عقد الرَّكعة(24) الَّتي قام إليها يرفع(25) رأسه منها، وقولهم مردودٌ بحديث ابنِ بُحَيْنَةَ فلا معنى للاشتغال به، وإنَّما ذكرته ليُعْرَفَ فساده.
          وأجمع العلماء أنَّ من ترك الجلسة الأولى عامدًا أنَّ صلاته فاسدةٌ وعليه إعادتها، قالوا: وهي(26) سنَّةٌ على حيالها، فحُكم(27) تركها عمدًا حُكم الفرائض، وأجمعوا أنَّ الجلسة الأخيرة(28) فريضةٌ إلَّا ابنُ عُلَيَّةٍ فقال(29): ليست بفرضٍ قياسًا على الجلسة الوسطى، واحتَجَّ بحديث ابنِ بُحَيْنَةَ في القيام من ثنتين.
          والجمهور حُجَّةٌ على من خالفهم لا يجوز عليهم جهل ما عليه(30) الشاذُّ المنفرد، على أنَّ ابنَ عُلَيَّة يوجب فساد صلاة من لم يأت بأعمال الصَّلاة كلِّها: سننها وفرائضها، وقوله(31) مردودٌ بقوله، ويرد أيضًا قولَهُ ◙(32): (وتَحْلِيْلُهَا التَّسْلِيْمُ)، والتَّسليم(33) لا يكون إلَّا بجلوس فسَقَطَ(34) قولهم(35).
          وفي حديث ابنِ بُحَيْنَةَ حجَّة لمن جعل سُجُود السَّهو في النقص(36) قبل التَّسليم(37)، وقد اختلفوا في ذلك، فذهبت فرقةٌ إلى أنَّ السُّجُود كلَّه قبل(38)، رُوِيَ هذا عن أبي هريرةَ ومَكْحُولٍ، وعنِ الزُّهْري ورَبِيْعَةَ والأوزاعي واللَّيث والشَّافعي.
          وقالت فرقةٌ: السُّجُود كلُّه بعد(39) السَّلام، رُوِيَ ذلك عن عليٍّ وابنِ مسعودٍ وعمَّار وسَعْدٍ وابنِ عبَّاسِ وأَنَسٍ، وهو قولٌ النَّخَعيِّ والحَسَنِ والثَّوْريِّ والكوفيين، واحتَّجُوا من طريق النَّظر بإجماعهم على أنَّ حُكْمَ من سَهَا في صلاته أن لا يسجد في موضع سهوه، وإنَّما يؤخِّر ذلك إلى آخر صلاته لتَجْمَع له(40) السَّجدتان كلَّ سهوٍ في صلاته، ومعلومٌ أنَّ السَّلام قد يمكن فيه السَّهو أيضًا، فوجب أن يؤخِّر السَّجدتان عن السَّلام(41) أيضًا كما يُؤخِّر عن التَّشهُّد.
          وذهب مالكٌ إلى أنَّ سهوه إن كان(42) نقصانًا مِن الصَّلاة فسُجُوده قبل السَّلام على حديث ابنِ بُحَيْنَةَ، وكلُّ سهوٍ كان زيادةً في الصَّلاة، فإنَّ سُجُوده بعد السَّلام على حديث ذي اليدين، وهو قول أبي ثَوْرٍ(43)، ولا مدخل للنَّظر مع وجود السُّنَن، فلا معنى لقول الكوفيين(44).


[1] في (ص): ((التشهد)).
[2] في (م): ((اختلف)).
[3] في (م): ((اثنين)).
[4] زاد في (م) و(ي) و(ص): ((هل)).
[5] في (م): ((روي)).
[6] في (م): ((ليته)).
[7] زاد في (م): ((قائمًا)).
[8] في (ص): ((للقياس)).
[9] في (م): ((ركعة)).
[10] في (م): ((أنَّ النَّبيَّ صلعم اعتدل قائمًا ولم يرجع إلى الجلوس ولا يخلو أمره ◙ حين اعتدل قائمًا من أن)).
[11] في (ص): ((وقد روى عمر)).
[12] في (م): ((وسعد)).
[13] في (ص): ((الرسول)).
[14] قوله: ((أنه)) ليس في (ص).
[15] زاد في (م): ((قد)).
[16] زاد في (م): ((إليها)).
[17] في (م): ((ولم)).
[18] في (م): ((في السَّهو والعمد)).
[19] زاد في (م): ((الجلسة)).
[20] في (م): ((عنها السُّجُود)).
[21] زاد في (م): ((وأنَّها)).
[22] في (م): ((البدن)).
[23] في (م) صورتها: ((وأوجبت)).
[24] في (م): ((ركعة)).
[25] في (م) صورتها: ((برفعه)).
[26] في (م): ((فهي)).
[27] في (م): ((وحكم)).
[28] في (م) تحتمل: ((الآخرة)).
[29] في المطبوع و(ص): ((قال)).
[30] في (م): ((علمه)). قوله: ((ما عليه)) ليس في (ص).
[31] في (م): ((فقوله)).
[32] في (م): ((ويرده أيضًا قوله ◙)).
[33] قوله: ((والتَّسليم)) ليس في (ي).
[34] في (م): ((إلَّا في جلوس فسقط)).
[35] في (م) و(ي) و(ص):((قوله)).
[36] في (م): ((النقصان)).
[37] في (م) و(ص): ((السَّلام)).
[38] زاد في (م): ((السَّلام)).
[39] في (ص): ((قبل)).
[40] قوله: ((له)) ليس في (م).
[41] في (ي): ((عن القيام))
[42] في (م): ((أنَّ كلَّ سهو كان)).
[43] زاد في (م): ((ألَّا ترى قوله: فلمَّا جلس وانتظرنا تسليمه سجد والانتظار يقع للتَّسليم الأوَّل فلو كان قد سلَّم الأولى لكان هذا القول محالًا لأنَّه يقول انتظرنا تسليمه وقد سلَّم)).
[44] في (م): ((ولا معنى لقول من خالفها)).