شرح الجامع الصحيح لابن بطال

كتاب الوصايا

          ░░55▒▒ كِتَاب: الْوَصَايَا
          ░1▒ بَاب الْوَصَايَا(1)، وَقَوْلِ النَّبيِّ صلعم: (وَصِيَّةُ الرَّجُلِ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ)، وقال الله ╡: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} الآية[البقرة:180].
          فيه: ابْنُ عُمَرَ: أَنَّ النَّبيَّ صلعم قَالَ: (مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ). [خ¦2738]
          وفيه: عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ خَتَنُ رَسُولِ اللهِ أَخُو جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ قَالَ: (مَا تَرَكَ رَسُولُ اللهِ صلعم عِنْدَ مَوْتِهِ دِرْهَمًا وَلا دِينَارًا وَلا عَبْدًا وَلا أَمَةً وَلا شَيْئًا إِلَّا بَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ وَسِلاحَهُ وَأَرْضًا جَعَلَهَا صَدَقَةً). [خ¦2739]
          وفيه: عَبْدُ اللهِ بْنُ أبي أَوْفَى: (قِيلَ لَهُ: هَلْ كَانَ النَّبيُّ صلعم أَوْصَى؟ فقَالَ(2): لا، فَقُلْتُ: كَيْفَ كُتِبَ على النَّاسِ الْوَصِيَّةُ أَوْ أُمِرُوا بِالْوَصِيَّةِ؟ قَالَ: أَوْصَى / بِكِتَابِ اللهِ). [خ¦2740]
          وفيه: عَائِشَةُ: ذُكر عِندَها أَنَّ عَلِيًّا كَانَ وَصِيًّا فقَالَتْ(3): مَتَى أَوْصَى إِلَيْهِ وَقَدْ كُنْتُ مُسْنِدَتَهُ إلى صَدْرِي فَدَعَا بِالطَّسْتِ، فَلَقَدِ(4) انْخَنَثَ في حَجْرِي، فَمَا شَعَرْتُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ فَمَتَى أَوْصَى إِلَيْهِ؟!. [خ¦2741]
          قال المُهَلَّب: في حديث ابن عمر الحضُّ على الوصيَّة خشية فجأة الموت للإنسان على غير عدةٍ.
          قال ابن المنذر(5): واختلف العلماء في وجوب الوصيَّة على من خلف مالًا، فقالت طائفةٌ: الوصيَّة واجبةٌ على ظاهر الآية. قال الزهريُّ: جعل الله الوصيَّة حقًّا ممَّا قلَّ أو كثر. قيل لأبي مِجلَزٍ: على كلِّ مثرٍ وصيَّةٌ؟ قال: كلُّ من ترك خيرًا.
          وقالت طائفةٌ: ليست الوصيَّة واجبةٍ كان الموصي موسرًا أو فقيرًا. هذا قول النَّخَعِيِّ والشَّعبيِّ، وهو قول مالكٍ والثوريَّ والشافعيِّ. قال الشافعيُّ: قوله: (مَا حَقُّ امرِئٍ مُسلِمٍ) يحتمل (مَا) الحزم، ويحتمل ما المعروف في الأخلاق إلَّا هذا من جهة الفرض.
          وقال أبو ثورٍ: ليست الوصيَّة واجبةً إلَّا على رجلٍ عليه دينٌ أو عنده مالٌ لقومٍ(6)؛ فواجب عليه أن يكتب وصيَّته ويخبر بما عليه؛ لأنَّ الله تعالى فرض أداء الأمانات إلى أهلها، فمن لا حقَّ عليه ولا أمانة قبله؛ فليس بواجبٍ(7) عليه أن يوصي، والدليل على صحَّة هذا قوله صلعم: (مَا حَقُّ امرِئٍ مُسلِمٍ) فأضاف الحقَّ إليه كقوله: هذا حقُّ زيدٍ. فلا ينبغي أن يتركه، فإذا تركه لم يلزمه.
          وقد روى أيُّوب عن نافعٍ، عن ابن عمر أنَّ النبيَّ صلعم قال: ((مَا حَقُّ امرِئٍ مُسلِمٍ يريدُ الوصيَّةَ)) فعلَّق ذلك بإرادة الموصي، ولو كانت واجبةً لم يعلِّقها بإرادته، وممَّا يدلُّ على ذلك أيضًا أنَّ ابن عمر روى الحديث عن النبيِّ صلعم ولم يوص، ومحالٌ أن يخالف ما رواه لو كان واجبًا، ولكنَّه عقل منه الاستحباب، وروي عن ابن عبَّاسٍ وابن عمر أنَّ قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ}[البقرة:180]نسختها آية المواريث، وهو قول مالكٍ والشافعيِّ وجماعةٍ.
          وقوله ◙: (يَبِيتُ لَيلَتَينِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكتُوبَةٌ عِندَهُ) فيه من الفقه أنَّ الوصيَّة نافذةٌ، وإن كانت عند صاحبها ولم يجعلها عند غيره وكذلك إن جعلها عند غيره وارتجعها.
          فإن قيل: إنَّ حديث ابن أبي أوفى وعائشة أنَّ النبيَّ صلعم لم يوص. قال المُهَلَّب: فالجواب: أنَّ قول ابن أبي أوفى لم يوص إنَّما أراد(8) الوصيَّة التي زعم بعض الشيعة أنَّه أوصى بالأمر إلى عليٍّ، وقد تبرَّأ عليٌّ من ذلك حين قيل له: أعهد إليك رسول الله صلعم بشيءٍ لم يعهده إلى الناس؟ فقال(9): لا والذي فلق الحبَّة وبرأ النسمة ما عندنا إلَّا كتاب الله وما في هذه الصحيفة.
          وأمَّا أرضه وسلاحه وبغلته فلم يوص فيها على جهة ما يوصي الناس في أموالهم؛ لأنَّه قال صلعم: ((لا نورث ما تركناه(10) صدقةٌ)) فرفع الميراث عن أزواجه وأقاربه، وإنَّما تجوز الوصيَّة لمن(11) يجوز لأهله وراثته.
          قال ابن المنذر: ووصيَّته بكتاب الله غير معنى قول عائشة: (وَلَا أَوصَى بِشَيءٍ)، قال المُهَلَّب: وقوله(12): (أَوصَى بِكتَابِ اللهِ) قد فسَّره عليٍّ بقوله: ما عندنا إلَّا كتاب الله، وكذلك قال عمر: حسبنا كتاب الله. حين أراد أن يعهد عند موته، وذكر النَّخَعِيُّ أنَّ طلحة والزبير كانا يشدِّدان في الوصيَّة فقال: ما كان عليهما ألَّا يفعلا، توفِّي رسول الله صلعم وما(13) أوصى، وأوصى أبو بكرٍ، فإن أوصى فحسنٌ وإن لم يوص فلا بأس. وقال(14) صاحب «العين»: انخنث السقاء وخنث: إذا مال، وخنثته أنا.


[1] قوله: ((باب الوصايا)) ليس في (ص).
[2] في (ص): ((قال)).
[3] في (ص): ((قالت)).
[4] في (ص): ((ولقد)).
[5] في (ص): ((المهلب)).
[6] في (ص): ((قوم)).
[7] قوله: ((بواجب)) ليس في (ص).
[8] في (ص): ((يريد)).
[9] في (ص): ((قال)).
[10] في (ص): ((تركنا)).
[11] زاد في (ز): ((لا)) والمثبت من (ص).
[12] في (ص): ((وقوله)).
[13] في (ص): ((فما)).
[14] في (ص): ((قال)).