شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: الخيل لثلاثة

          ░48▒ باب: الْخَيْلُ لِثَلاثَةٍ وَقَوْلُهُ: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً}[النحل:8]
          فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ ◙: (الْخَيْلُ لِثَلاثَةٍ: لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ، وعلى رَجُلٍ وِزْرٌ، فَأَمَّا الذي هِي لَهُ أَجْرٌ: فَرَجُلٌ رَبَطَهَا في سَبِيلِ اللهِ، فَأَطَالَ لهَا في مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ، فَمَا أَصَابَتْ في طِيَلِهَا ذَلِكَ مِنَ الْمَرْجِ، أَوِ الرَّوْضَةِ، كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٍ، وَلَوْ أَنَّهَا قَطَعَت طِيَلَهَا ذَلِكَ وَاسْتَنَّتْ شَرَفًا أَوْ شَرَفَينِ كَانَتْ آَثَارُهَا وَأَرْوَاثُهَا(1) حَسَنَاتٍ لَهُ وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهَرٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ فَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِيَهَا كَانَ ذَلِكَ حَسَنَاتٍ لَهُ، وَرَجُلٌ رَبَطَهَا فَخْرًا وَرِيَاءً وَنِوَاءً لأهْلِ الإسْلامِ فَهِي وِزْرٌ على ذَلِكَ). [خ¦2860]
          وَسُئِلَ رَسُولُ اللهِ عَنِ الْحُمُرِ، فَقَالَ: (مَا أُنْزِلَ فِيهَا إِلَّا هَذِهِ الآيَةُ الْجَامِعَةُ الْفَاذَّةُ): {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ}[الزلزلة:7]الحديث.
          إنَّ المرء لا يؤجر في اكتسابها لأعيانها، وإنَّما يؤجر بالنِّيَّة الخالصة في استعمال ما ورد الشَّرع بالفضل في عمله؛ لأنَّها خيلٌ كلُّها، وقد اختلف أحوال مكتسبيها لاختلاف النِّيَّات فيها.
          وفيه: أنَّ الحسنات تكتب للمرء إذا كان له فيها سببٌ وأصلٌ، تفضُّلًا من الله على عباده المؤمنين؛ لأنَّه ذكر حركات الخيل وتقلُّبها ورعيها وروثها وأنَّ ذلك حسناتٌ للمجاهد، والطِّيَل: الحبل الذي تربط به الدَّابَّة، ويقال له: طِوَل أيضًا.
          قال طرفة:
لَعَمرُكَ إنَّ الموتَ ما أَخطَأَ الفَتـى                     لَكالطِّوَلِ المُرخَى وثِنْيـاه باليَـدِ
          ومعنى الكلام: أنَّ فرس المجاهد ليمضي على وجهه في الحبل الذي أطيل له فيُكتَب له بذلك حسناتٌ.
          وقوله: (اسْتَنَّتْ شَرَفًا أَوْ شَرَفَينِ) والاستنان أن تأخذ في سننٍ على وجهٍ واحدٍ ماضيًا وهو يفتعل من السَّنن وهو القصد، ويقال: فلان يستنُّ الرِّيح إذا كان على جهتها وممرِّها، وأهل الحجاز يقولون: اُسنُنْها. ويقال في مثل: اسْتَنَّت الفِصال حتَّى القرعى، يضرب مثلًا للرَّجل الضَّعيف، يرى الأقوياء يفعلون شيئًا فيفعل مثله. والشَّرف: ما ارتفع من الأرض.
          وقوله: تغنِّيًا يعني: استغناء، يقال منه: تغنَّيت تغنِّيًا، وتغانيت تغانيًا، واستغنيت استغناء.
          وقوله: (نِواءً) هو مصدر نَاوَأت العدوَّ مُناوأةً ونِواءً وهي: المساواة. قال أهل اللُّغة: أصله من ناء إليك ونؤت إليه، أي: نهض إليك ونهضت إليه وفي كتاب «العين»: ناوأت الرَّجل: ناهضته بالعداوة، والنِّواء: العداوة، والفاذَّة هي: المتعدِّدة، ويقال: فاذَّةٌ وفذَّةٌ، وفاذٌّ وفذٌّ، ومنه قوله ◙: ((صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذِّ)) ومعنى ذلك أنَّها متعدِّدةٌ في عموم الخير والشَّرِّ لا آية أعمَّ منها.
          قال المؤلِّف: وقوله ◙: (لَم يَنزِل عَليَّ في الحُمُرِ إلَّا هذِهِ الآيةُ: {فمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ}[الزلزلة:7]). فهذا تعليمٌ منه ◙ لأمَّته الاستنباط والقياس، وكيف تفهم معاني التَّنزيل؛ لأنَّه شبَّه ◙ ما لم يذكر الله في كتابه وهي الحمر بما ذكره من عمل مثقال ذرَّة من خير إذ كان معناهما واحدًا، وهذا أنفس القياس الذي ينكره من لا تحصيل له ولا فهم عنده؛ لأنَّ قوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ}[الزلزلة:7]يدخل فيه مع الحمر جميع أفعال البرِّ دقيقها وجليلها، ألا ترى إلى فهم عائشة / وغيرها من الصَّحابة هذا المعنى من هذه الآية حتَّى تصدَّقوا بحبَّة عنبٍ وقالوا: كم فيها من مثاقيل الذَّرِّ.


[1] في (ص): ((أرواثها)).