شرح الجامع الصحيح لابن بطال

[كتاب الرقاق]

          ♫(1)
          ░░81▒▒ كِتَابُ الرِّقَاقِ(2).
          ░1▒ بابُ: لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الآخِرَةِ.
          فيه: ابنُ عبَّاس، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ). [خ¦6412]
          وفيه: أَنَسٌ، وسَهْلٌ: (كُنَّا مَعَ النَّبيِّ صلعم بِالْخَنْدَقِ، وَهُوَ يَحْفِرُ، وَنَحْنُ نَنْقُلُ التُّرَابَ(3)، وَبَصُرَ بِنَا فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الآخِرَة، فَاغْفِرْ لِلأنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَة). [خ¦6413]
          قال المؤلِّف: قال بعض العلماء: إنَّما أراد صلعم بقولِه: (الصِّحَّةُ وَالفَرَاغُ نِعْمَتَانِ) تنبيه أُمَّتِه على مقدار عظيم نعمة الله على عبادِه في الصِّحَّة والكفاية لأنَّ المرء لا يكون فارغًا حتَّى يكون مكفيًّا مؤنة العيش في الدُّنيا، فمَن أنعم الله عليه بهما فليحذر أن يغبنَهما، ومما يُستعان به على دفع الغبن أن يعلم العبد أنَّ الله تعالى خلق الخلق مِن غير ضرورة إليهم، وبدأهم بالنِّعم الجليلة مِن غير استحقاق منهم لها، فمَنَّ عليهم بصحَّة الأجسام وسلامة العقول، وتضمَّن أرزاقَهم وضاعف لهم الحسنات ولم يضاعف عليهم السيِّئات / وأمرَهم أن يعبدوه ويعتبروا بما ابتدأَهم به مِن النِّعم الظَّاهرة والباطنة، ويشكروه عليها بأحرفٍ يسيرة، وجعل مدَّة طاعتِهم في الدُّنيا منقضية بانقضاء أعمارِهم، وجعل جزاءَهم على ذلك خلودًا دائمًا في جنَّة(4) لا انقضاء لها مع ما ذخر لمَن أطاعَه ممَّا لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
          فمَن أنعم النَّظر في هذا كان حريًّا ألا يذهب عنه وقت مِن صحَّتِه وفراغِه إلا وينفقُه في طاعة ربِّه، وشكرِه(5) على عظيم مواهبِه والاعتراف بالتَّقصير عن بلوغ تأدية كُنْهِ(6) ذلك، فمَن لم يكن هكذا وغفل وسها عن التزام ما ذكرنا، ومرَّت أيَّامُه عنه في سهو ولهو وعجز عن القيام بما لزمَه(7) لربِّه تعالى فقد غبن أيَّامَه، وسوف يندم حيث لا ينفعُه النَّدم، وقد روى التِّرمذي مِن حديث ابن المبارك عن يحيى بن عُبيد الله بن موهَب عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلعم: ((مَا مِنْ أَحَدٍ يَمُوتُ إِلَّا نَدِمَ، قَالُوا: وَمَا نَدَامَتُهُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: إِنْ كَانَ مُحْسِنًا نَدِمَ أَلَّا يَكُونَ ازْدَادَ، وَإِنْ كَانَ مُسِيْئًا نَدِمَ أَلَّا يَكُونَ نَزَعَ)).
          وأمَّا قولُه صلعم: (اللَّهُمَّ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الآخِرَةِ) فإنَّه نبَّه بذلك أمَّتَه على تصغير شأن الدُّنيا وتقليلِها، وكدر لذَّاتِها وسرعة فنائِها، وما كان هكذا فلا معنى للشُّغل به عن العيش الدَّائم الَّذي لا كدر في لذَّاتِه، بل فيه ما تشتهيه الأنفس وتلذُّ الأعين.


[1] قوله: ((╖)) ليس في (ت) و(ص).
[2] في (ت): ((الرقائق)).
[3] في (ت) و(ص): ((ونحن نمر بالتراب)).
[4] في (ت) و(ص): ((جنات)).
[5] في (ت) و(ص): ((ويشكره)).
[6] في (ت) و(ص): ((كنه تأدية)).
[7] في (ت): ((يلزمه)).