شرح الجامع الصحيح لابن بطال

[أبواب فضائل المدينة]

          ░░29▒▒ باب: مَا جَاءَ في حَرَمِ الْمَدِينَةِ.
          فيه: أَنَسٌ: (قَالَ ◙: الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مِنْ كَذَا إلى كَذَا، لا يُقْطَعُ شَجَرُهَا، وَلا يُحْدَثُ فِيهَا حَدَثٌ، مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ). [خ¦1867]
          وقالَ أَنَسٌ: (قَدِمَ النَّبيُّ صلعم الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: يَا بَنِي النَّجَّارِ ثَامِنُونِي بِحَائِطكُم هَذا، قَالُوا: لا نَطْلُبُ بِثَمَنَهُ إِلَّا إلى اللهِ، فَأَمَرَ بِقُبُورِ الْمُشْرِكِينَ فَنُبِشَتْ، ثُمَّ بِالْخِرَبِ فَسُوِّيَتْ، وَبِالنَّخْلِ فَقُطِعَ، فَصَفُّوا النَّخْلَ قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ). [خ¦1868]
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: (قَالَ رسُولُ اللهِ صلعم: حُرِّمَ مَا بَيْنَ لابَتَيِ الْمَدِينَةِ على لِسَانِي)، وَأَتَى الرَّسُولُ صلعم بَنِي حَارِثَةَ، وقَالَ: (أَرَاكُمْ يَا بَنِي حَارِثَةَ قَدْ خَرَجْتُمْ مِنَ الْحَرَمِ، ثُمَّ الْتَفَتَ فَقَالَ: بَلْ أَنْتُمْ فِيهِ). [خ¦1869]
          وفيه: عَلِيٍّ ☺ قَالَ: (مَا عِنْدَنَا إِلَّا كِتَابُ اللهِ وَهَذِهِ الصَّحِيفَةُ عَنِ النَّبيِّ، ◙: الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَائِرٍ إلى كَذَا، مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا، أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلا عَدْلٌ)، الحديث. [خ¦1870]
          حَرَّمَ رسولُ الله المدينةَ إلى الحدود المشار إليها، و(عَائِرٍ) جبل بقرب المدينة، ويروى: ((عِير)) وقوله: (إِلى كَذَا) وقع في بعض الأمَّهات وفي بعض الكتب من رواية ابن السَّكن <مَا بَينَ عير إِلى ثَوْرٍ> وثور جبل معروف أيضًا.
          قال أبو عبيد والطَّبريُّ: وقد أنكر قوم من أهل المدينة أن يكون بها جبل يسمَّى ثورًا، وقال: إنَّما ثور بمكَّة. / [قال أبو عبيد: فنرى الحديث إنَّما أصله (مَا بَيْنَ عير إِلى أُحُد) وكذلك حَرَّمَ ما بين لابتي المدينة، واللَّابة الحرَّة، وهو الموضع ذو الحجارة السُّود. قال أبو عبيد: وجمعها لاب ولُوب.
          قال ابن حبيبٍ: وتحريم رسول الله لابتي المدينة إنَّما ذلك في الصَّيد، فأمَّا قطع الشَّجر فبريد في بريد في دور المدينة كلِّها، كذلك أخبرني مُطَرِّف عن مالكٍ، وهو قول عُمَر بن عبد العزيز، واللَّابتان هما الحرَّتان الغربيَّة والشَّرقيَّة، وللمدينة حرَّتان أيضًا: حرَّة في القبلة وحرَّة في الجوف، وترجع كلُّها إلى الحرَّتين، لأنَّ القبلة والجوفيَّة متَّصلان بهما، ولذلك حرَّم رسول الله ما بين لابتي المدينة، جمع دورها كلَّها في اللَّابتين، وقد ردَّها حسَّان بن ثابت إلى حرَّة واحدة فقال:
لَنا حَـرَّةٌ مأطُورةٌ بِجِبالِها                     بنى العِـزُّ فيها بيتَهُ فَتأثَّلا
          وقوله: مأطورة يعني: مقطوعة بجبالها لاستدارتها، وإنَّما جبالها الحجارة السُّود التي تسمَّى الجرار.
          قال المُهَلَّب: وإنَّما أدخل حديث أنسٍ في بناء المسجد في هذا الباب بعد قوله: (لَا يُقْطَعُ شَجَرُهَا) ليعرِّفك أنَّ قطع النَّخل ونبش قبور المشركين ليس هو القطع الذي نهي عنه في تحريم المدينة، لأنَّ قطع النَّخيل كان لتبويء المسلمين مسجدًا.
          ففي هذا من الفقه أنَّ من أراد أن يتَّخذ جنانًا في حرمٍ ليعمرها، ويغرس فيها النَّخل، ويزرع فيها الحبوب، أنَّه لا يتوجَّه إليه النَّهي عن قطع شجرها، ولا يمنع من قطع ما فيه من شجر الشَّعَر أو شوكها، لأنَّه يبتغي الصَّالح والتَّأسيس للسُّكنى في موضع العمارة، فهذا يبيِّن وجه النَّهي أنَّه موقوفٌ على المفسد لبهجة المدينة وخضرتها لعين المهاجر إليها حتَّى تبتهج نفسه لنضرتها وترتاح بمبانيها، وإن كان ابتهاجه بمسجدها بيت الله تعالى ومنزل ملائكته ومحلِّ وحيه أعظم والسُّرور به أشدُّ.
          وقيل: قطعه ◙ للنَّخيل من موضع المسجد يدلُّ أن النَّهي إنَّما يتوجَّه إلى ما اثبته الله من المسجد ممَّا لا صنع فيه لآدمي، لأنَّ النَّخيل التي قطعت من موضع المسجد كانت من غرس الآدميِّين، لأنَّه طلب شراء الحائط من بني النَّجَّار إذ كان ملكًا لهم، فقالوا: لا نطلب ثمنه إلَّا إلى الله، وعلى هذا التَّأويل حمل نهيه ◙ عن قطع شجر مكَّة.
          واتَّفق مالك والشَّافعيُّ وأحمد وجمهور الفقهاء على أنَّ الصَّيد محرَّمٌ في حرم المدينة.
          وقال أبو حنيفة وأصحابه: صيد المدينة غير محرَّم، كذلك قطع شجرها، فخالف آثار هذا الباب، واحتجَّ الطَّحاويُّ بحديث أنسٍ أنَّ النَّبيَّ صلعم دخل دارهم وكان لأنسٍ أخٌ صغيرٌ، وكان لهم نُغَير يلعب به، فقال له النَّبيُّ ◙: ((يا أبا عُمَير، ما فعل النُّغَير؟)) وهذا لا حجَّة فيه، لأنَّه يمكن أن يصطاد ذلك النُّغَر من غير حرم المدينة.
          وحجَّة الجماعة: أنَّ الصَّحابة فهمت من الرَّسول صلعم تحريم الصَّيد في حرم المدينة، لأنَّهم أَمروا بذلك وأفتوا به، وهم القدوة الذين يجب اتِّباعهم.
          وروي عن أبي سعيد الخدريِّ أنَّه كان يضرب بنيه إذا اصطادوا فيه ويرسل الصَّيد.
          وروي عن سعد بن أبي وقَّاص: أنَّه أخذ سلب من صاد في حرم المدينة وقطع شجرها، ورواه عن النَّبيِّ صلعم إلَّا أنَّ أئمَّة الفتوى لم يقولوا بأخذ سلبه.
          قال المُهَلَّب: وقوله ◙: (حُرِّمَ مَا بَيْنَ لابَتَيِ الْمَدِينَةِ على لِسَانِي) يريد أنَّ تحريمها كان من طريق الوحي، فوجب تحريم صيدها وقطع شجرها، إلَّا أنَّ جمهور العلماء على أنَّه لا جزاء في حرم المدينة، لكنَّه آثمٌ عندهم من استحل َّحرم رسول الله، فإنَّ قال الكوفيُّون: لمَّا أجمعوا على سقوط الجزاء في حرم المدينة دلَّ أنَّه غير محرمٍ.
          قيل: لا حجَّة في هذا؛ لأنَّ صيد مكَّة قد كان محرَّمًا على غير أمَّة محمَّد، ولم يكن عليهم فيه جزاء وإنَّما الجزاء فيه على أمَّة محمَّد، فليس إيجاب الجزاء فيه علَّةً للتَّحريم، وشذَّ ابن أبي ذئبٍ ونافعٌ صاحب مالكٍ، والشَّافعيُّ في أحد قوليه فأوجبوا فيه الجزاء.
          قال ابن القصَّار: والدَّليل على سقوط الجزاء أنَّ الرَّسول صلعم لمَّا حرَّم المدينة وذكر ما ذكر لم يذكر جزاءً على من قتل الصَّيد بها، وما كان من جهته ◙ لم يكن تبيانًا لما في القرآن فليس محرَّمًا تحريم القرآن، وإنَّما هو مكروهٌ حتَّى يكونَ بَيْنَ تحريمه وتحريم القرآن فرقٌ.
          فإن احتجُّوا بحديث سعدٍ أنَّ الرَّسول صلعم قال: ((من وجدتموه يصيد في حرم المدينة ويقطع شجرها، فخذوا سلبه))، فلم يصحَّ عند مالكٍ ولا رأى العمل عليه بالمدينة، ولو صحَّ الحديث عن الرَّسول صلعم لأوجب الجزاء على من لا سلب له، ولو لم يكن على القاتل إلَّا ما يستر به عورته لم يجز أخذه وكشف عورته، فثبت أنَّ الصَّيد ليس بمضمونٍ أصلًا.
          ألا ترى أنَّ صيد مكَّة لمَّا كان مضمونًا لم يفترق حكم الغنيِّ والفقير ومن له سلبٌ ومن لا سلب له في أنَّه مضمون عليه في أيِّ وقتٍ قدر. وقد قال مالكٌ: لم أسمع أنَّ في صيد المدينة جزاءً، ومن مضى أعلم ممَّن بقي، فقيل له: فهل يؤكل؟ فقال: ليس كالذي يُصَاد بمكَّة وإني لأكرهه.
          قال المُهَلَّب: وفي حديث أنسٍ وعليٍّ من الفقه لعنة أهل المعاصي والعناد لأوامر النَّبيِّ ◙.
          وفيه: أنَّ المحدث في حرم المدينة والمؤوي للمحدث في الإثم سواءٌ.
          وقول بني النَّجَّار: (لا نَطْلُبُ بِثَمَنَهُ إِلَّا مِنَ اللهِ) فيه من الفقه إثبات الأحباس المراد بها وجه الله، لأنَّهم وهبوا البقعة للمسلمين حبسًا موقوفًا عليهم، فطلبوا الأجر على ذلك من الله.
          وفي حديث أبي هريرة من الفقه أنَّ للعالم أن يقول على غلبة الظَّنِّ، ثمَّ ينظر فيصحَّ النَظر، ويقول بعد ذلك، كما قال ◙ لبني حارثة.
          وقوله ◙: (مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا، أَوْ آوَى مُحْدِثًا) قال أبو عبيد: الحدث كُلُّ حَدٍّ لله يجب على صاحبه أن يقام عليه، وهذا شبيه بحديثٍ في الرَّجل يأتي حدًّا من الحدود، ثمَّ يلجأ إلى الحرم أنَّه لا يقام عليه الحدُّ، ولكنَّه لا يجالس ولا يكلَّم حتَّى يَخرج منه، فإذا خرج منه أُقيم عليه الحَدُّ، فجعل الرَّسول صلعم حرمة المدينة كحرمة مكَّة في المأثم في صاحب الحدِّ ألَّا يؤذيه أحدٌ حتَّى يخرج منه(1) فيقام عليه الحدُّ.
          وقوله: (لا يُقْبَلُ مِنْهُ صرْفٌ وَلا عَدْلٌ) هذا يمكن أن يكون في وقتٍ دون وقتٍ، إن أنفذ الله عليه الوعيد، ليس أنَّ هذه حاله عند الله أبدًا، لأنَّ الذُّنوب لا تُخرج من الدِّيانة ولا يُخْرِج منها غير الكفر وحده.
          وقوله: (أَخْفَرَ مُسْلِمًا) قال الخليل: يقال: أخفرت الرَّجل: إذا لم تف بذمَّته، والاسم: الخفور.
          وقوله: (صَرْفٌ وَلا عَدْلٌ) قال أبو عبيدٍ عن مكحول: الصِّرف: التَّوبة، والعدل: الفدية. قال أبو عبيدٍ: وفي القرآن ما يصدِّق هذا التَّفسير وهو قوله: {وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا}[الأنعام:70]وأمَّا الصَّرف فلا أدري قوله تعالى: {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلاَ نَصرًْا(2)}[الفرقان:19]من هذا أم لا؟ وبعض النَّاس يحمله على هذا، ويقال: إن الصَّرف النَّافلة، والعدل الفريضة.
          قال أبو عبيدٍ: والتَّفسير الأوَّل أشبه بالمعنى. وقال أبو عليٍّ البغداديُّ: الصَّرف الحيلة، والصَّرف الاكتساب، والعدل الفدية، والعدل الدِّية، صحيح في الاشتقاق. فأمَّا من قال: الصَّرف الفريضة، والعدل النَّافلة، والصَّرف الدِّية، والعدل الزِّيادة على الدِّية، فغير صحيح في الاشتقاق.
          وقال الطَّبريُّ: الصَّرف مصدرٌ من قولك: صَرَفت نفسي عن الشَّيء أصرِفها صَرفًا. وإنَّما عنى به في هذا الموضع صَرف راكب الذَّنب وهو المحدث في الحرم حدثًا من سفك دمٍ أو استحلال محرَّمٍ فلا تقبل توبته، والعدل: ما يعدله من الفدية والبدل، وكلُّ ما عادل الشَّيء من غير جنسه وكان له مثلًا من وجه الجزاء لا من وجه المشابهة في الصُّورة والخلقة، فهو له عَدل، بفتح العين، ومنه قوله: {وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا}[الأنعام:70]بمعنى وإن تفد منها كلَّ فدية.
          وأمَّا العِدل _بكسر العين_ فهو مثل الحِمل المحمول على الظَّهر، يقال: عندي غلامٌ عِدل غلامك، وشاةٌ عِدل شاتك، بكسر العين، إذا كان غلامًا يعدل]
(3) / غلامًا وشاةً تعدل شاةً، وذلك في كلِّ مثل للشَّيء من جنسه، فإذا أراد أنَّ عنده قيمته من غير جنسه فتحت العين فيقول: عندي عَدل شاتك من الدَّراهم. وقد ذكر عن بعض العرب أنَّهم يكسرون العين من العدل الذي هو بمعنى الفدية، وذلك لتقارب معنى العدل عندهم.


[1] قوله: ((كحرمة مكَّة في المأثم في صاحب الحّدِّ ألا يؤذيه أحد حتى يخرج منه)) ليس في (ص) وما قبلها في الحاشية. ولعل النقص من تصوير النسخة، وقد أثبت من المطبوع.
[2] في (ص): ((فلا تستطيعون صرفًا ولا عدلًا)) والمثبت من المطبوع.
[3] وقع نقص من تصوير النسخة بمقدار لوحة جعلناه بين معقوفين مستدرك من المطبوع.