شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب البيعة في الحرب أن لا يفروا

          ░110▒ باب: الْبَيْعَةِ في الْحَرْبِ أَلَّا يَفِرُّوا
          وَقَالَ بَعْضُهُمْ: على الْمَوْتِ، لِقَوْلِ اللهِ تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}[الفتح:18].
          فيه: ابْنُ عُمَرَ: رَجَعْنَا مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَمَا اجْتَمَعَ مِنَّا اثْنَانِ على الشَّجَرَةِ التي بَايَعْنَا تَحْتَهَا، كَانَتْ رَحْمَةً مِنَ اللهِ. فَسَأَلْتُ نَافِعًا على أيِّ شَيْءٍ بَايَعَهُمْ: على الْمَوْتِ؟ قَالَ: لا، بَلْ بَايَعَهُمْ على الصَّبْرِ. [خ¦2958]
          وفيه: عَبدُ اللهِ بْنِ زَيْدٍ، لَمَّا كَانَ زَمَنُ الْحَرَّةِ أَتَاهُ آتٍ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ ابْنَ حَنْظَلَةَ يُبَايِعُ النَّاسَ عَلى الْمَوْتِ قَالَ: لا أُبَايِعُ على هَذَا أَحَدًا بَعْدَ النَّبيِّ ◙. [خ¦2959]
          وفيه: مَسْلَمَةُ، قَالَ: (بَايَعْتُ النَّبيَّ صلعم ثُمَّ عَدَلْتُ إلى ظِلِّ شَّجَرَةِ، فَلَمَّا خَفَّ النَّاسُ، قَالَ: يَا ابْنَ الأكْوَعِ، أَلَا تُبَايِعُ؟ قَالَ: قُلْتُ: قَدْ بَايَعْتُ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: وَأَيْضًا، فَبَايَعْتُهُ الثَّانِيَةَ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا مُسْلِمٍ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ كُنْتُمْ تُبَايِعُونَ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: على الْمَوْتِ). [خ¦2960]
          وفيه: أَنَسٌ: (كَانَتِ الأنْصَارُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، تَقُولُ:
نَحْـنُ الَّذِيـنَ بَايَعُـوا مُحَمَّـدَا                     على الْجِهَـادِ مَـا بقِينَـا أَبـَدَا
          فَأَجَابَهُمُ فَقَالَ:
اللَّهُمَّ لا عَيْـشَ إِلَّا عَيْشُ الآخِرَهْ                     فَأَكْـرِمِ الأنْصَـارَ وَالْمُهَـاجِـرَهْ) [خ¦2961]
          وفيه: مُجَاشِعٌ بْنُ مَسعُودٍ: (أَتَيْتُ النَّبيَّ صلعم أَنَا وَأَخِي فَقُلْتُ: بَايِعْنَا على الْهِجْرَةِ، قَالَ: مَضَتِ الْهِجْرَةُ لأهْلِهَا، فَقُلْتُ: عَلامَ تُبَايِعُنَا؟ قَالَ: على الإسْلامِ وَالْجِهَادِ). [خ¦2962] [خ¦2963]
          قال المُهَلَّب: هذه الأحاديث مختلفة الألفاظ، منهم من يقول على الموت، وعلى ألَّا يفرَّ، وعلى الصَّبر، والصَّبر يجمع المعاني كلَّها وهو أولى الألفاظ بالمعنى؛ لأنَّ بيعة الإسلام هي على الجهاد وقتال المثلين، فإن كان المشركون أكثر من المثلين كان المسلم في سعةٍ من أن يفرَّ، وفي سعةٍ أن يأخذ بالشِّدَّة ويصبر، وهذا كلُّه بعد أن نسخ قتال العشرة أمثالٍ، وأمَّا قبل نسخها فكان يلزم قتال العشرة أمثالٍ وألَّا يفرَّ إلَّا من أكثر منها.
          وبيعة الشَّجرة إنَّما هي على الأخذ بالشِّدَّة وألَّا يفرَّ أصلًا ولا بدَّ من الصَّبر إمَّا إلى فتحٍ وإمَّا إلى موتٍ، فمن قال: (بَايَعَنا عَلَى المَوتِ)، أراد يفتح لنا، ومن قال: (لا نفرَّ). فهو نفس القصَّة التي وقعت عليها المبايعة، وهو معنى الصَّبر؛ وقول نافعٍ: (عَلَى الصَّبر)؛ كراهية لقول من قال بأحدٍ الطَّريقين: الموت أو الفتح، فجمع نافع المعنيين في كلمة الصَّبر.
          وقوله لسلمة بن الأكوع: (أَلَا تُبَايِعُ) أراد أن يؤكِّد بيعته؛ لشجاعة سلمة وغنائه في الإسلام وشهرته بالثَّبات؛ فلذلك أمره بتكرير المبايعة.
          وحديث مُجَاشِع بن مسعودٍ إنَّما كان / بعد الفتح؛ لأنَّ الرَّسول صلعم قال: ((لا هجرة بعد الفتح، إنَّما هو جهادٌ ونيَّةٌ))، فكلُّ من بايع الرَّسول صلعم قبل الفتح لزمه الجهاد أبدًا ما عاش إلَّا لعذرٍ يجوز له به التَّخلُّف، وكذلك قالوا بحضرة رسول الله في ارتجازهم يوم الخندق:
(نـَحـنُ الَّذِيـنَ بَايَعُـوا مُـحَـمَّـدًا                     عَلَى الـجـِهَادِ مَا بَقِينـَا أَبـَدًا)
          وكذلك قال الله: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ}[التوبة:122]فأباح لهم أن يتخلَّف عن الغزو من ينفر إلى التَّفقُّه في الدِّين ولم يبح لغير المتفقِّهين التَّخلُّف عن الغزو.
          وأمَّا من أسلم بعد الفتح فله أن يجاهد وله أن يتخلَّف بنيَّةٍ صالحةٍ كما قال: ((جهادٌ ونيَّةٌ)) إلَّا أن ينزل عدوٌّ أو ضرورةٌ فيلزم الجهاد كلَّ أحدٍ، والدَّليلُ على أنَّ كلَّ من بايع النَّبيِّ صلعم قبل الفتح لا يجوز له التَّخلُّف عن الجهاد أبدًا قصَّةُ كعب بن مالكٍ إذ تخلَّف عن تبوك مع صاحبيه هلال بن أميَّة، ومرارة بن الرَّبيع أنَّهم لم يغزوا وعتب(1) الله ورسوله والمؤمنون عليهم وأخرجوهم من بين أظهرهم ولم يسلموا عليهم ولم يكلِّموهم حتَّى بلغت منهم العقوبة مبلغها وعلم الله إنابتهم فتاب عليهم. وأخو مجاشع بن مسعودٍ اسمه مجالد بن مسعود السُّلَميُّ.
          قوله: (فَمَا اجْتَمَعَ اثْنَانِ عَلَى الشَّجَرَةِ، كَانَت رَحمَةً) يعني: جهلهم بها رحمةٌ، خشية أن تعبد وتصير كالقبلة والمسجد، وبيعة الشَّجرة كانت بالمدينة فرضت الحرب على المسلمين، وقد كانت بيعة العقبة بمكَّة على ألَّا يشركوا بالله شيئًا، ولا يسرقوا، ولا يزنوا، على ما ذكر الله في آخر سورة الممتحنة، وذكره عُبَاْدَة بن الصَّامت في حديثه، ولم يفرض في هذه البيعة حربٌ، إنَّما كانت بيعة النِّساء، وقد تقدَّم بيان ذلك في كتاب الإيمان، في باب علامة الإيمان حبُّ الأنصار. [خ¦18]
          وأمَّا قول عبد الله بن زيدٍ في زمن الحرَّة: (لَا أُبَايِعُ أَحَدًا عَلى الموتِ بَعدَ النَّبيِّ) وإنَّما قال ذلك لأنَّه كان يرى القعود في الفتن التي بين المسلمين وترك القتال مع إحدى الطَّائفتين، وقد ذهب إلى ذلك جماعةٌ من السَّلف على ما يأتي بيانه في كتاب الفتنة، في باب قوله ◙: ((تكون فتنةٌ القاعد فيها خيرٌ من القائم)). [خ¦7081] [خ¦7082]


[1] صورتها في (ص): ((وعند)) وبيض لها في المطبوع والمثبت من التوضيح.