شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب من قال: خذها وأنا ابن فلان

          ░167▒ باب: مَنْ قَالَ أَنَا ابُن فُلانٍ
          وَقَالَ سَلَمَةُ: خُذْهَا، وَأَنَا ابْنُ الأكْوَعِ.
          فيه: الْبَرَاءُ: (أَمَّا رَسُولُ اللهِ صلعم لَمْ يُوَلِّ يَومَ حُنَينٍ، كَانَ أَبُو سُفْيَانَ آخِذًا بِعِنَانِ بَغْلَتِهِ، فَلَمَّا غَشِيَهُ الْمُشْرِكُونَ، نَزَلَ فَجَعَلَ يَقُولُ:
أَنَـا النَّبي لا كَـذِبْ                     أَنَـا ابْـنُ عَبْـد ِالْمُطَّلِبْ)
          قَالَ: فَمَا رُئِيَ مِنَ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ أَشَدُّ مِنْهُ. [خ¦3042]
          قال المؤلِّف: في «النَّوادر» قال محمَّد بن عبد الحكم: لا بأس بالافتخار عند الرَّمي، والانتماء بالقبائل، والرَّجز، وكلُّ ذلك إذا رمى بالسَّهم فظنَّه مصيبًا أن يصيح عليه، وبالذِّكر لله أحبُّ إليَّ، وإن قال: أنا الفلانيُّ _لقبيلته_ فذلك جائزٌ كلُّه مستحبٌّ.
          وفيه إغراءٌ لبعضهم ببعض، وروي عن النَّبيِّ صلعم أنَّه قال: ((أَنَا ابنُ العَوَاتِكِ)) ورمى ابن عمر بين الهدفين فقال: أنا لها، أنا لها، وقال: أنا أبو عبد الرَّحمن. فقال: أنا الغلام الهذليُّ. وكان مكحولٌ فارسيًّا وكانت لغته بالدَّال.
          وقوله: (خُذْهَا، وأنا ابن الأكوع) أي: أنا ابن المشهور بالإصابة في الرَّمي عن القوس، وهذا على سبيل الفخر؛ لأنَّ العرب تقول: أنا ابن نجدتها. أي: القائم بالأمر. وأنا ابن جلاءٍ، يريد المنكشف للأمر الواضح الجليِّ. وقال الهذليُّ:
فـَرَمَيتُ فَـوقَ مُـلاءَةٍ مَحبوكَـةٍ                     وَأَبَنـتُ لِلأَشهـادِ حُـرَّة أَدَّعـي
          يقول: أبنت لهم قولي: خذها وأنا ابن فلانٍ، وحُرَّة: يعني ساعة أدَّعي إلى قومي، ولا يقول مثل هذا إلَّا الشُّجاع البطل، والعادة عند العرب أن يُعلم الشُّجاع نفسه بعلامةٍ في الحرب يتميَّز بها من غيره ليقصده / من يدَّعي الشَّجاعة، فأعلم النَّبيُّ صلعم نفسه بالنُّبوَّة المعصومة، وبنسبه الطَّاهر فقال:
(أنـا النَّبيُّ لَا كَـذِبْ                     أَنَـا ابـنُ عَبـدِ الـمُـطَّلِـبْ)
          ليقوى قلب من تمكَّن الشَّيطان منه فاستزلَّه وانهزم، ولذلك نزل صلعم بالأرض؛ لأنَّ النُّزول غاية ما يكون من الطُّمأنينة والثِّقة بالله تعالى ليقتدي به المؤمنون فيثبتوا؛ لأنَّ الرَّسول صلعم لا يجوز عليه من كيد الشَّيطان أن يقذف في قلبه خوفًا يزلُّ به قدمه، أو ينكص على عقبيه فينهزم؛ لأنَّه على بصيرةٍ من أمره، ويقينٍ من نصر الله له، وإتمام أمره، ومنعه من عدوِّه، وقد تقدَّم هذا المعنى. [خ¦2864]
          قال الطَّبريُّ: وقد اختلف السَّلف: هل يعلم الرَّجل الشُّجاع نفسه عند لقاء العدوِّ؟ فقال بعضهم: ذلك جائزٌ على ما دلَّ عليه هذا الحديث، وقد أعلم نفسه حمزة بن عبد المطَّلب يوم بدرٍ بريشة نعامةٍ في صدره، وأعلم نفسه أبو دجانة بعصابةٍ بمحضر النَّبيِّ صلعم، وكان الزُّبير يوم بدرٍ معتمًّا بعمامةٍ صفراء، فنزلت الملائكة معتمِّين بعمائم صفرٍ.
          وقال ابن عبَّاس في قوله تعالى: {بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ}[آل عِمْرَان:125]إنَّهم أتَوا محمَّدًا صلعم مسوِّمين بالصُّوف، فسوَّم محمَّدٌ وأصحابه أنفسهم وخيلهم على سيماهم بالصُّوف، وكره آخرون التَّسويم والإعلام في الحرب، وقالوا: فعل ذلك من الشُّهرة، ولا ينبغي للرَّجل المسلم أن يشهر نفسه في خيرٍ ولا شرٍّ، قالوا: وإنَّما ينبغي للمؤمن إذا فعل شيئًا لله أن يخفيه عن النَّاس؛ فإنَّ الله لا يخفى عليه شيءٌ، روي هذا عن بُريدة الأسلميِّ.
          قال الطَّبريُّ: والصَّواب أنَّه لا بأس بالتَّسويم والإعلام في الحرب إذا فعله الفاعل من أهل البأس والنَّجدة، وهو قاصدٌ بذلك شدَّ النَّاس على الائتساء به(1) والصَّبر للعدوِ والثَّبات لهم في اللِّقاء، وهو يريد ترهيب العدوِّ إذا عرفوا مكانه، وإعلام من معه من المسلمين أنَّه لا يخذلهم ولا يُسلِمهم.
          وأمَّا إذا لم يرد ذلك وقصد به الافتخار فهذا المعنى هو المكروه؛ لأنَّه ليس ممَّن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا وإنَّما قاتل للذِّكر.


[1] صورتها في (ص): ((أن لا يتشابه)) وبيض لها في المطبوع، والمثبت من التوضيح.