شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: أفضل الناس مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله

          ░2▒ باب أَفْضَلُ النَّاسِ مُؤْمِنٌ مُجَاهِدٌ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ في سَبِيلِ اللهِ
          وقولِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ}الآية[الصف:10].
          فيه: أَبُو سَعِيد قَالَ: (قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: مُؤْمِنٌ يُجاهِدُ فِي سَبِيلِ اللهِ بِنَفسِهِ وَمَالِهِ، قَالُوا: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: مُؤمِنٌ في شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ يَتَّقِي اللهَ وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ). [خ¦2786]
          فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبيُّ ◙: (مَثَلُ الْمُجَاهِدِ في سَبِيلِ اللهِ _وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُجَاهِدُ في سَبِيلِهِ_ كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ، وَتَوَكَّلَ اللهُ لِلْمُجَاهِدِ في سَبِيلِهِ بِأَنْ يَتَوَفَّاهُ ويُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ يَرْجِعَهُ سَالِمًا مَعَ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ). [خ¦2787]
          قال المُهَلَّب: فيه فضل الغنى.
          وقوله: (أيُّ النَّاسِ أفضَلُ؟ فقالَ صلعم: مؤمنٌ يُجاهِدُ في سَبيلِ اللهِ) ليس على عمومه ولا يريد أنَّه أفضل النَّاس قاطبةً؛ لأنَّ أفضل منه من أوتي منازل الصِّدِّيقين، وحمل النَّاس على شرائع الله وسنن نبيِّه، وقادهم إلى الخيرات، وسبَّب لهم أسباب المنفعة في الدِّين والدُّنيا، لكن إنَّما أراد صلعم _والله أعلم_ أفضل أحوال عامَّة النَّاس؛ لأنَّه قد يكون في خاصَّتهم من أهل الدِّين والعلم والفضل والضَّبط بالسُّنن من هو أفضل منه.
          وقوله في حديث أبي هريرة: (واللهُ أعلَمُ بمَنْ يُجاهِدُ في سَبيلِهِ)
          يريد _والله أعلم_ بعقد نيَّته إن كانت لله خالصةً وإعلاء كلمته، فذلك المجاهد في سبيل الله، وإن كان في نيَّته حبُّ المال والدُّنيا واكتساب الذِّكر فيها فقد شرك مع سبيل الله سبيل الدُّنيا.
          وقوله: (كَمَثلِ الصَّائِمِ القَائِمِ) يدلُّ أنَّ حركات المجاهد ونومه ويقظته حسناتٌ، وإنَّما مثَّله بالصائم لأنَّ الصَّائم ممسكٌ لنفسه عن الأكل واللَّذات، وكذلك المجاهد ممسكٌ لنفسه على محارسة / العدوِّ، وحابسٌ نفسه على مراعاته ومقابلته.
          وقوله: (مَعَ مَا نَالَ مِنْ أَجرٍ أَو غَنِيمَةٍ) إنَّما أدخل (أو) هاهنا لأنَّه قد يرجع مرَّةً بالأجر وحده، وقد يرجع مرَّةً أخرى بالأجر والغنيمة جميعًا، فأدخل (أو) لتدلَّ على اختلاف الحالين، لا أنَّه يرجع بغنيمةٍ دون أجرٍ، بل أبدًا يرجع بالأجر كانت غنيمةٌ أو لم تكن.
          قال أبو عبد الله بن أبي صُفرة: تفاضلهم في الأجر وتساويهم في الغنيمة دليلٌ قاطعٌ أنَّ الأجر يستحقُّونه بقتالهم، فيكون أجر كلِّ واحدٍ على قدر عنائه، وأنَّ الغنيمة لا يستحقُّونها بذلك لكن بتفضُّل الله عليهم ورحمته لهم بما رأى من ضعفهم، فلم يكن لأحدٍ فضلٌ على غيره إلَّا أن يفضِّله قاسم الغنيمة فينفِّله من رأسها، كما نفَّل أبا قَتادة، أو من الخمس كما نفَّلهم في حديث ابن عمر، والله يؤتي فضله من يشاء.
          وفيه فضل العزلة والانفراد عن النَّاس، والفرار عنهم ولا سيَّما في زمن الفتن وفساد النَّاس، وإنَّما جاءت الأحاديث بذكر الشِّعاب والجبال؛ لأنَّها في الأغلب مواضع الخلسة والانفراد، فكلُّ موضعٍ يبعد عن النَّاس فهو داخلٌ في هذا المعنى كالمساجد والبيوت، وقد قال عقبة بن عامرٍ: ((ما النَّجاة يا رسول الله؟ قال: أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك)).