شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الدعاء بالجهاد والشهادة للرجال والنساء

          ░3▒ باب الدُّعَاءِ بِالْجِهَادِ وَالشَّهَادَةِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ.
          وَقَالَ عُمَرُ: ارْزُقْنِي شَهَادَةً في بَلَدِ رَسُولِكَ.
          فيه: أَنَسٌ: (كَانَ النَّبيُّ صلعم يَدْخُلُ على أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ، فَتُطْعِمُهُ، وَكَانَتْ أُمُّ حَرَامٍ تَحْتَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللهِ صلعم فَأَطْعَمَتْهُ، وَجَعَلَتْ تَفْلِي رَأْسَهُ، فَنَامَ رَسُولُ اللهِ صلعم ثُمَّ اسْتَيْقَظَ، وَهُوَ يَضْحَكُ، قَالَتْ قُلْتُ: وَمَا يُضْحِكُكَ، يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عليَّ غُزَاةً في سَبِيلِ اللهِ، يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ، مُلُوكًا على الأسِرَّةِ _أَوْ مِثْلَ الْمُلُوكِ على الأسِرَّةِ، شَكَّ إِسْحَاقُ_ قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهمْ، فَدَعَا لَهَا، ثُمَّ وَضَعَ رَسُولُ اللهِ صلعم رَأْسَهُ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ، وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقُلْتُ: وَمَا يُضْحِكُكَ، يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عليَّ غُزَاةً في سَبِيلِ اللهِ، كَمَا قَالَ في الأُولَى، قَالَتْ: قُلْتُ: ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، قَالَ: أَنْتِ مِنَ الأوَّلِينَ، فَرَكِبَتِ الْبَحْرَ في زَمَانِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أبي سُفْيَانَ، فَصُرِعَتْ عَنْ دَابَّتِهَا حِينَ خَرَجَتْ مِنَ الْبَحْرِ، فَهَلَكَتْ). [خ¦2788] [خ¦2789]
          قال المُهَلَّب: كانت أمُّ حرام خالة النَّبيِّ صلعم من الرَّضاعة، فلذلك كان ينام في حجرها، وتفلى رأسه. قال غيره: إنَّما كانت خالة لأبيه أو لجدِّه؛ لأنَّ أمَّ عبد المطلب كانت من بنى النَّجَّار، وكان يأتيها زائرًا لها، والزِّيارة من صلة الرَّحم.
          وفيه: إباحة أكل ما قدَّمته المرأة إلى ضيفها من مال زوجها؛ لأنَّ الأغلب أنَّ ما في البيت من الطَّعام هو للرَّجل. وفيه أنَّ الوكيل والمؤتمن إذا علم أنَّه يسرُّ صاحب المنزل بما يفعله في ماله جاز له فعل ذلك، ومعلوم أنَّ عُبَاْدَة كان يسرُّه أكل رسول الله في بيته.
          واختلف العلماء في عطيَّة المرأة من مال زوجها بغير إذنه، وسيأتي ذلك في موضعه. [خ¦2155]
          وقوله: (يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ) والثَّبج: الظَّهر.
          وقال الخطَّابيُّ: الثَّبج أعلى متن الشَّيء.
          وضحكه صلعم هو سرورٌ منه، بما يدخله الله على أمَّته من الأجر، وما ينالوه من الخير، وإنَّما رآهم ملوكًا على الأسرَّة في الجنَّة في رؤياه، وفيه إباحة الجهاد للنِّساء في البحر، وقد ترجم له بذلك بعد: باب جهاد النِّساء، بعد هذا.
          وقالت أمُّ عطيَّة: ((كنَّا نغزوا مع النَّبيِّ صلعم فنداوى الكَلمى ونقوم على المرضى)) وفيه أنَّ الجهاد تحت راية كلِّ إمامٍ جائزٌ ماضٍ إلى يوم القيامة؛ لأنَّه رأى الآخرين ملوكًا على الأسرَّة كما رأى الأوَّلين، ولا نهاية للآخرين إلى يوم القيامة، قال تعالى: {ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ. وثُلَّةٌ مِّنَ الْآخِرِينَ}[الواقعة:39-40]، وهذا الحديث من أعلام النُّبوَّة وذلك أنَّه أخبر فيه بضروبٍ من الغيب قبل وقوعها، فمنها: / جهاد أمَّته في البحر، وضحكه دليلٌ على أنَّ الله يفتح لهم ويغنمهم، ومنها: الإخبار بصفة أحوالهم في جهادهم وهو قوله: (يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ، مُلُوكًا على الأسِرَّةِ) ومنها قوله لأمِّ حرامٍ: (أنتِ مِنَ الأوَّلينَ) فكان كذلك، غزت مع زوجها في أوَّل غزوةٍ كانت إلى الرُّوم في البحر مع معاوية. وفيه: هلكت، وهذا كلُّه لا يُعلَم إلَّا بوحى من الله تعالى على ما أوحى إليه به في نومه.
          وفيه: أنَّ رؤيا الأنبياء وحيٌ، وفيه ضحك المبشَّر إذا بُشِّر بما يسرُّه كما فعل صلعم.
          قال المُهَلَّب: وفيه فضل معاوية ☼ وأنَّ الله قد بشَّر به نبيَّه في النَّوم؛ لأنَّه أوَّل من غزا في البحر وجعل من غزا تحت رايته من الأوَّلين. وذكر أهل السِّير أنَّ هذه الغزاة كانت في زمن عثمان. قال الزُّبير بن أبي بكر: ركب معاوية البحر غازيًا بالمسلمين في خلافة عثمان إلى قبرس ومعه أمُّ حرامٍ زوجة عُبَاْدَة، فركبت بغلتها حين خرجت من السَّفينة فصرعت فماتت. وقال ابن الكلبيِّ: كانت هذه الغزاة لمعاوية سنة ثمانٍ وعشرين.
          وفيه أنَّ الموت في سبيل الله شهادةٌ. وذكر ابن أبي شيبة، قال: حدَّثنا يزيد بن هارون، حدَّثنا ابن عونٍ، عن ابن سيرين، عن أبي العَجفَاء السُّلَميِّ قال: قال عُمَر بن الخطَّاب: قال محمَّد صلعم: ((من قُتِل في سبيل الله أو مات فهو في الجنَّة)).