شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الفتك بأهل الحرب

          ░159▒ باب: الفَتكِ فِي الحَربِ
          فيه: جَابِرٌ قَالَ ◙: (مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأشْرَفِ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: أَتُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَائْذَنْ لي فَأَقُولَ، قَالَ(1): قَدْ فَعَلْتُ). [خ¦3032]
          الفتك في الحرب على وجهين: أحدهما محرَّمٌ، والثَّاني جائزٌ، فالفتك الذي يحرم به الدَّم أن يصرِّح بلفظٍ يفهم منه التَّأمين. فإذا أمَّنه فقد حرم بذلك دمه والغدر به وعلى هذا جماعة العلماء، وأمَّا الوجه المباح منه فهو أن يخادعه بألفاظٍ هي معاريض غير تصريحٍ بالتأمين، فهذا يجوز؛ لأنَّ الحرب خدعة.
          قال المؤلِّف: / واختلف في تأويل قتل ابن الأشرف على وجوهٍ:
          فقيل: إنَّ قتله هو من هذا الباب المباح؛ لأنَّ ابن مسلمة لم يصرِّح له بشيءٍ من لفظ التَّأمين، وإنَّما أتاه بمعاريض من القول فيجوز هذا أن يسمَّى: فتكًا على المجاز.
          وفيه وجهٌ آخر قاله بعض شيوخنا قال: إنَّ قتل ابن الأشرف هو من باب أنَّ من آذى الله ورسوله قد حلَّ دمه، ولا أمان له يعتصم به فقتله جائز على كلِّ حالٍ؛ لأنَّ الرَّسول ◙ إنَّما قتله بوحيٍ من الله وأذن في قتله فصار ذلك أصلًا في جواز قتل من كان لله ولرسوله حربًا، عن الطَّبريِّ.
          قال غيره: ألا ترى لو أنَّ رجلًا أدخل رجلًا مشركًا في داره فأمَّنه فسبَّ عنده النَّبيَّ ◙ حلَّ بذلك للذي أمَّنه قتله، ونحو هذا ما حكاه ابن حبيبٍ، قال: سمعت المدنيِّين من أصحاب مالكٍ يقولون: إنَّما تجب الدَّعوة لكلِّ من لم يبلغه الإسلام، ولا يعلم ما يُقاتَل عليه، فأمَّا من قد بلغه الإسلام، وعلم ما يُدعَى إليه، ومن حارب وحورب مثل الرُّوم والإفرنج، فالدَّعوة فيما بيننا وبينهم مطرحةٌ ولا بأس بتبييت مثل أولئك بالغارة وتصبيحهم، وانتهاز الفرصة فيهم بلا دعوةٍ، وقد بعث رسول الله عبد الله بن أنيسٍ الجُهَنيَّ إلى عبد الله بن نبيحٍ الهذليِّ فاغتاله بالقتل، وهو بعُرنَة من جبال عرفة، وبعث نفرًا من الأنصار إلى ابن أبي الحُقَيق، وإلى كعب بن الأشرف فهجموا عليهما بالقتل في بيوتهما بخيبر.
          قال المؤلِّف: فلا يجوز أن يقال: إنَّ ابن الأشرف قُتِل غدرًا؛ لأنَّه لم يكن معاهدًا، ولا كان من أهل الذِّمَّة، ومن قال: إنَّه قُتِل غدرًا فهو كافرٌ ويقتل بغير استتابةٍ؛ لأنَّه تنقَّص النَّبيَّ صلعم ورماه بكبيرةٍ وهو الغدر، وقد نزَّهه الله عن كلِّ دنيَّة، وطهَّره من كلِّ ريبة.
          ألا ترى قول هرقل لأبي سفيان: سألتك: هل يغدر؟ فزعمت أن لا، وكذلك الرُّسل لا يغدرون، وإنَّما قال هذا هرقل؛ لأنَّه وجد في الإنجيل صفته، وصفة جميع الأنبياء ‰ أنَّه لا يجوز عليهم صفات النَّقص؛ لأنَّهم صفوة الله وهم معصومون من الكبائر، والغدر كبيرة، وسيأتي في كتاب الرهون في باب رهن السِّلاح، زيادة في معنى قتل كعب بن الأشرف إن شاء الله. [خ¦2510]
          وروي في الأثر أنَّ يامين(2) السَّبائيَّ قال في مجلس عليِّ بن أبي طالبٍ: إن ابن الأشرف قُتِل غدرًا. فأمر به على فضرب عنقه.
          وقد قال مالكٌ: من تنقَّص النَّبي صلعم فإنَّه يُقتَل، ومن قال: إنَّ زرَّ النَّبيِّ صلعم وسخة يريد بذلك الإزراء عليه قُتِل، قال: ومن سبَّه قُتِل بغير استتابةٍ إن كان مسلمًا، وإن كان ذمِّيًّا قُتِل قبل أن يُسلِم.
          وقال الكوفيُّون: من سبَّ النَّبيَّ صلعم فقد ارتدَّ، وإن كان ذمِّيًّا عُزِّر ولم يُقتَل، وسيأتي تمام هذه المسألة والحجَّة فيها في موضعه إن شاء الله. [خ¦6926]


[1] في(ص): ((ما)) والمثبت من المطبوع.
[2] في (ص) والمطبوع: ((تاس)) والمثبت من التوضيح.