شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الكافر يقتل المسلم ثم يسلم فيسدد بعد ويقتل

          ░28▒ باب الْكَافِرِ يَقْتُلُ الْمُسْلِمَ ثُمَّ يُسْلِمُ فَيُسَدِّدُ أَوْ يُقْتَلُ.
          فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (يَضْحَكُ اللهُ إلى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ يَدْخُلانِ الْجَنَّةَ، يُقَاتِلُ هَذَا في سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلُ، ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ على الْقَاتِلِ فَيُسْتَشْهَدُ). [خ¦2826]
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: (أَتَيْتُ الرَّسُولَ صلعم وَهُوَ بِخَيْبَرَ بَعْدَ مَا افْتَتَحُوهَا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَسْهِمْ لي، فَقَالَ بَعْضُ بَنِي سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ: لا تُسْهِمْ لَهُ، يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: هَذَا قَاتِلُ ابْنِ قَوْقَلٍ، فَقَالَ ابْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ: وَاعَجَبًا لِوَبْرٍ، تَدَلَّى عَلَيْنَا مِنْ قَدُومِ ضَأْنٍ يَنْعَى عَليَّ قَتْلَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ أَكْرَمَهُ اللهُ على يَدَيَّ وَلَمْ يُهِنِّي على يَدَيْهِ. قَالَ: فَلا أَدْرِي أَسْهَمَ لَهُ أَوْ لَمْ يُسْهِمْ(1)). [خ¦2827]
          قال المؤلِّف: ذكر أبو داود هذا الحديث في مصنِّفه قال: ((ولم يسهم له رسول الله)) وذكر أنَّه أَبَان بن سعيد بن العاص، والتَّرجمة صحيحةٌ، ومعناها عند العلماء أنَّ القاتل الأوَّل كان كافرًا، وتوبته إسلامه.
          وقوله: (يَضْحَكُ اللهُ إلى رَجُلَيْنِ) أي: يتلقَّاهما بالرَّحمة والرِّضوان، والضَّحك منه على المجاز؛ لأنَّ الضَّحك لا يكون منه تعالى على ما يكون من البشر لأنَّه ليس كمثله شيءٌ.
          وفيه من الفقه: أنَّ الرَّجل قد يوبَّخ بما سلف إلَّا أن يتوب، فلا يوبَّخ عليه، ولا تثريب، ألا ترى أنَّ أبا هريرة لمَّا وبَّخ ابن(2) سعيدٍ على قتل ابن قَوقَل كيف ردَّ عليه أقبح الرَّدِّ، وصارت له عليه الحجَّة كما صارت لآدم على موسى من أجل أنَّهما وبِّخا بعد التَّوبة من الذَّنب.
          وفيه: أنَّ التَّوبة تمحو ما سلف قبلها من الذُّنوب، القتل وغيره لقوله: (أكرمَهُ اللهُ على يديَّ ولم يُهنِّي على يدَيهِ) لأنَّ ابن قَوقَل وجبت له الجنَّة بقتل ابن سعيدٍ له ولم تجب لابن سعيدٍ النَّار لأنَّه تاب وأسلم، ويصحِّح ذلك سكوت الرَّسول صلعم على قوله، ولو كان غير صحيحٍ لما لزمه السُّكوت؛ لأنَّه صلعم بعث مبيِّنًا للنَّاس.
          وفي حديث أبي هريرة حجَّة على الكوفيِّين في قولهم في المدد يلحق بالجيش في أرض الحرب بعد الغنيمة أنَّهم شركاؤهم في الغنيمة، وسائر العلماء إنَّما تجب عندهم الغنيمة لمن شهد الوقعة. واحتجُّوا بأن الرَّسول صلعم لم يسهم لأبي هريرة في هذا الحديث. قال الكوفيُّون: لا حجَّة في حديث أبي هريرة لأنَّ خيبر صارت حين فتحت دار إسلام وهذا لا شكَّ فيه، قالوا: وقد روى حمَّاد بن سلمة، عن عليِّ بن زيدٍ، عن عمَّار بن أبي عمَّار، عن أبي هريرة قال: ((ما شهدت لرسول الله مغنمًا إلَّا قسم لي إلَّا خيبر؛ فإنَّها كانت لأهل الحديبية خاصَّة شهدوها أو لم يشهدوها؛ لأنَّ الله كان وعدهم بها بقوله: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا}[الفتح:21])). واحتجُّوا بما رواه أبو أسامة، عن بريد(3) بن أبي بُرْدَة، عن أبي موسى قال: ((قدمنا على النَّبيِّ صلعم مع جعفرٍ من أرض الحبشة بعد فتح خيبر بثلاثٍ فقسم لنا ولم يقسم لأحدٍ لم يشهد فتحها غيرنا)).
          قال الطَّحاويُّ: وهذا يحتمل أن يكون لأنَّهم كانوا من أهل المدينة، أو يكون استطاب أنفس أهل الغنيمة. وعلى قول الطَّحاويِّ لا حجَّة لأصحابه / في حديث أبي موسى، وسيأتي تمام هذا القول في هذه المسألة في حديث ابن عمر أنَّ النَّبيَّ صلعم أسهم لعثمان يوم بدرٍ في باب: إذا بعث الإمام رسولًا في حاجةٍ أو أمره بالمقام عليها هل يقسم له، بعد هذا إن شاء الله. [خ¦3130]
          وقوله: (وَاعَجَبًا لِوَبْرٍ، تَدَلَّى عَلَيْنَا مِنْ قَدُومِ ضَأْنٍ) وقد روي من رأس ضأنٍ، فمن رواه (لوبَرٍ) بفتح الباء فمعناه أنَّه شبَّه أبا هريرة بالوبر الذي لا حطب له ولا مقدار؛ لأنَّه لم يكن لأبي هريرة عشيرةٌ ولا قومٌ يمتنع بهم ولا يغني في قتالٍ ولا لقاء عدوٍّ، وكان ابن سعيدٍ وأبو هريرة طارئين، ذكر الطَّبريُّ أنَّ أبا هريرة وأبانًا قدما على الرَّسول صلعم بخيبر.
          ومن روى الوبْر بإسكان الباء فمعناه أنَّه يشبِّهه بالوبر وهو دويبَّة على قدر السِّنَّور، عن صاحب «العين»، فأراد به في ضعف المُنَّة وقلَّة الغناء كالنُّسور في السِّباع، وإنَّما سكت النَّبي صلعم عن الإنكار على ابن سعيدٍ؛ لأنَّه لم يذمَّ أبا هريرة بحدٍّ ولا تنقَّصه في دينٍ، وإنَّما تنقصَّه في قلَّة العشيرة والعدد أو بضعف المُنَّة. وأمَّا قوله: (تَدَلَّى عَلَيْنَا مِنْ قَدُومِ ضَأْنٍ) فإنَّ أبا ذرٍّ الهرويَّ قال: ضأنٌ جبلٌ بأرض دوسٍ وهو بلد أبي هريرة. وقوله: (تَدَلَّى عَلَينا) يعني: انحدر، ولا يخبر بهذا إلَّا عمَّن جاء من موضعٍ عالٍ، هذا الأشهر عند العرب.
          وقوله: (مِنْ قَدُومِ ضَأْنٍ) يحتمل أن يكون قدوم جمع قادمٍ، مثل راكعٍ وركوعٍ وساجدٍ وسجودٍ، ذكر ذلك سيبويه فيكون المعنى تدلَّى علينا من جملة القوم القادمين، أقام الصِّفة مقام الموصوف. وتكون (مِنْ) في قوله (مِنْ قَدُومِ) تبيينًا للجنس كقوله: لو تدلَّى علينا من ساكني ضَأْنٍ، ولا تكون (مِنْ) مرتبطة بالفعل في قوله: تدلَّيت من الجبل. لاستحالة تدلِّيه من قومٍ. ولا يقال تدلَّيت من بني فلانٍ، ويحتمل أن يكون (قَدُومِ) مصدرًا وصف به الفاعلون، ويكون في الكلام حذفٌ، وتقديره: تدلَّى علينا من ذوي قدوم، فحذف الموصوف وأقام المصدر مقامه، كما قالوا: رجلٌ صَومٌ ورجلٌ فَطرٌ أي: ذو صومٍ وذو فطرٍ، و(مِنْ) على هذا التَّقدير أيضًا تبيين للجنس كما كانت في الوجه الأوَّل.
          ويحتمل أن يكون معناه: تدلَّى علينا من مكان قدوم ضأنٍ، ثمَّ حذف المكان وأقام القدوم مكانه، كما قالت العرب: ذُهِب به مَذهبٌ وسُلِك به مسلكٌ، يريد المكان الذي يُسلَك فيه ويُذهَب، ويشهد لهذا رواية من روى (مِنْ رأسِ ضَأْنٍ).
          وفيه قول آخر: يحتمل أن يكون (قَدُومِ) اسم لمكان من الجبل متقدِّم منه، ولا يكون مصدرًا ولا جمعًا، ويدلُّ على هذا رواية من روى: (تدلَّى علينا مِنْ رأس ضَأْنٍ) ويحتمل أن يكون اسمًا لمكان قَدومٍ بفتح القاف دون الضَّمِّ، لقلَّة الضَّمِّ في هذا البناء في الأسماء، وكثرة الفتح. ويحتمل أن يكون قدوم ضأنٍ بتشديد الدَّال وفتح القاف لو ساعدته روايةٌ؛ لأنَّه بناءٌ من أسماء المواضع، وطرف القدوم موضع بالشَّام.


[1] قوله: ((له)) ليس في (ص) والمثبت من المطبوع.
[2] قوله: ((وبخ ابن)) غير ظاهرة في (ص) وبيض لها في المطبوع والمثبت من التوضيح.
[3] في (ص): ((زيد)) والمثبت من المطبوع.