شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: إذا أسلم قوم في دار الحرب ولهم مال وأرضون فهى لهم

          ░180▒ باب: إِذَا أَسْلَمَ قَوْمٌ في دَار الَحربِ وَلَهٌمْ مَالٌ وَأَرْضونَ فَهِيَ لَهَمْ
          فيه: أُسَامَةُ: (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيْنَ تَنْزِلُ غَدًا _في حَجَّتِهِ_؟ قَالَ: وَهَلْ تَرَكَ عَقِيلٌ لَنَا مَنْزِلًا؟ ثُمَّ قَالَ: نَحْنُ نَازِلُونَ غَدًا بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ الْمُحَصَّبِ حَيْثُ قَاسَمَتْ قُرَيْشٌ على الْكُفْرِ، وَذَلِكَ أَنَّ بَنِي كِنَانَةَ حَالَفَتْ قُرَيْشًا عَلَى بَنِي هَاشِمٍ: أَنْ لا يُبَايِعُوهُمْ وَلا يُؤْوُوهُمْ). [خ¦3058]
          قَالَ الزُّهريُّ: وَالْخَيْفُ: الْوَادِي.
          فيه: عُمَرُ، أنَّهُ اسْتَعْمَلَ مَوْلًى يُدْعَى هُنَيًّا على الْحِمَى، فَقَالَ: يَا هُنَيُّ، اضْمُمْ جَنَاحَكَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّها مُسْتَجَابَةٌ، وَأَدْخِلْ رَبَّ الصُّرَيْمَةِ وَالْغُنَيْمَةِ، وَإِيَّايَ وَنَعَمَ ابْنِ عَوْفٍ، وَنَعَمَ ابْنِ عَفَّانَ، فَإِنَّهُمَا إِنْ تَهْلِكْ مَاشِيَتُهُمَا يَرْجِعَا إلى نَخْلٍ وَزَرْعٍ، وَإِنَّ رَبَّ الصُّرَيْمَةِ وَالْغُنَيْمَةِ إِنْ تَهْلِكْ مَاشِيَتُهُمَا يَأْتِنِي بِبَنِيهِ، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَفَتَارِكُهُمْ أَنَا لا أَبَا لَكَ؟ فَالْمَاءُ وَالْكَلأُ أَيْسَرُ عليَّ مِنَ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَايْمُ اللهِ إِنَّهُمْ لَيَرَوْنَ أَنِّي قَدْ ظَلَمْتُهُمْ إِنَّهَا لَبِلادُهُمْ، قَاتَلُوا عَلَيْهَا في الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَسْلَمُوا عَلَيْهَا في الإسْلامِ، والذي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلا الْمَالُ الذي أَحْمِلُ عَلَيْهِ في سَبِيلِ اللهِ مَا حَمَيْتُ عَلَيْهِمْ مِنْ بِلادِهِمْ شِبْرًا. [خ¦3059]
          قال أبو عبد الله بن أبي صُفرة: لمَّا أسلم أهل مكَّة عام الفتح مَنَّ عليهم النَّبيُّ صلعم وترك لهم أموالهم ودماءهم، ولم ينزل في شيءٍ منها لمنِّه عليهم بها، ونزل في الوادي، وكذلك كان يفعل بهوازن لو بدرت بإسلامها، فلمَّا استأنت قسم النَّبيِّ صلعم الغنيمة بين أصحابه، فلمَّا جاءوا بعد القسمة خيَّرهم في إحدى الطَّائفتين: المال أو السَّبي، فاختاروا السَّبي، فقضى به رسول الله صلعم لهم، واستطاب أنفس أصحابه، وقال: من لم تطب نفسه فليبق إلى أوَّل مغنمٍ يفيئه الله علينا، وقضى لأهل مكَّة بأموالهم، ولم يستطب نفوس أصحابه؛ لأنَّه مال الله على اجتهاده، لا شيء للغانمين فيه إلَّا أن يقسمه لهم / لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}[الحشر:7]فآتاهم الرَّسول صلعم بهذه الآية أرض خيبر فقسمها بينهم، ونهاهم في مكَّة فانتهوا، ونهاهم عمر عن الأرض المغنومة بالشَّام والعراق بهذه الآية فلم يقسمها لهم.
          قال المُهَلَّب: وإنَّما أدخل هنيًّا تحت هذه التَّرجمة؛ لأنَّ أهل المدينة أسلموا عفوًا فكانت لهم أموالهم؛ ألا ترى أنَّه ساوم بمكان المسجد بني النَّجَّار وقال: ((ثَامِنوني بِحَائِطكُم)) فأوجبه لهم. وكذلك قال عمر: (إِنَّها لَأرْضُهُم قَاتَلُوا عَلَيها فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَأَسلَمُوا عَلَيهَا فِي الإِسلَامِ) فأوجبها لهم، وهذا كلُّه يشهد لهذه التَّرجمة أنَّ من أسلم في أرض الحرب فأرضه له ما لم يغلب عليها.
          وسئل مالكٌ عن إمامٍ قبل الجزية من قومٍ فأسلم منهم أحدٌ، أتكون أرضه له وماله؟ فقال مالكٌ: ذلك يختلف، أمَّا الصُّلح فمن أسلم منهم فهو أحقُّ بأرضه وماله، وأمَّا أهل العنوة فمن أسلم منهم فماله وأرضه فيءٌ للمسلمين؛ لأنَّ أهل العنوة قد غلبوا على بلادهم فهي فيءٌ لمن منَّ عليهم، وأمَّا أهل الصُّلح فإنَّهم قومٌ منعوا أنفسهم وأموالهم حتَّى صالحوا عليها فليس عليهم إلَّا ما صولحوا عليه. وقول مالكٍ في هذا إجماعٌ من العلماء.
          واختلفوا إذا أسلم في دار الحرب، وبقي فيها ماله وولده، ثمَّ خرج إلينا مسلمًا، وغزا مع المسلمين بلده.
          فقال الشَّافعيُّ وأشهب وسَحنون أنَّه قد أحرز ماله وعقاره حيث كان وولده الصِّغار؛ لأنَّهم تبعٌ لأبيهم في الإسلام، وحجَّتهم أنَّه إذا أسلم كان ماله حيث كان من دار الحرب أو غيرها على ملكه، فإذا غنمت دار الحرب كان حكم ماله كحكم مال المسلمين ولم تزل الغنيمة ملكه عنه.
          وقال مالكٌ واللَّيث: أهله وماله وولده فيءٌ على حكم البلد كما كانت دار النَّبيِّ صلعم على حكم البلد وملكهم ولم ير نفسه صلعم أحقَّ بها.
          وفرَّق أبو حنيفة بين حكمها إذا أسلم في بلده، ثمَّ خرج إلينا؛ فأولاده الصِّغار أحرارٌ مسلمون وما أودعه مسلمًا أو ذمِّيًّا فهو له، وما أودعه حربيًّا فهو وسائر عقاره هنالك فيءٌ. وإذا أسلم في بلد الإسلام ثمَّ ظهر المسلمون على بلده فكلُّ ماله فيه فيءٌ لاختلاف حكم الدَّارين عندهم.
          ولم يفرِّق مالكٌ ولا الشَّافعيُّ بين إسلامه في داره أو في دار الإسلام.
          قال المُهَلَّب: وفيه أنَّ للإمام أن يحمي أراضي النَّاس المبورة لغنم الصَّدقة ومنفعةٍ تشمل المسلمين، كما حمى عمر هذا الحمى لإبل الصَّدقة وغنمها، وهو الحمى الذي زاد فيه عثمان فأنكر عليه، وليس لأحدٍ أن ينكر هذا على عثمان؛ لأنَّه لمَّا رأى عمر فعل ذلك جاز لعثمان أن يحمي أكثر إذا احتاج إليه لكثرة الصَّدقة في أيَّامه.
          وقوله: (اضْمُم جَنَاحَكَ عَنِ النَّاسِ) أي: لا تشدَّ على كلِّ النَّاس في الحمى؛ فإنَّ ضعفاء النَّاس القليلي الغنم والإبل الذي لا تنتهك ماشيته الحمى إن حميته عنه كان ظلمًا، فاتَّق دعوته؛ فإنَّها لا تحجب من الله.
          وقوله: (وَإِيَّايَ ونَعمِ ابنِ عَوفٍ وابنِ عَفَّانٍ) حذَّره أن يدخل الحمى؛ فإنَّها كثيرةٌ، فإن دخلته أنَّهكته، فإن منعت الدُّخول وهلكت كان لأربابها عوضٌ من أموالهم يعيشون فيه، ومن ليس له غير الصَّريمة القليلة إن هلكت أتى يستغيث أمير المؤمنين في الإنفاق عليه وعلى بنيه من بيت المال.
          وفيه: جواز الحمل على من له مالٌ ببعض المضرَّة الدَّاخلة عليه في ماله إذا كان في ذلك نظرٌ لغيره من الضُّعفاء.
          وقوله: (لَولَا المَالُ) يريد الإبل التي يحمل عليها المجاهدون في سبيل الله من نعم الصَّدقة التي حمى لها الحمى لترعى فيه مدَّة أيَّام النَّظر في الحمل عليها.
          وفيه: دليلٌ على أنَّ مسارح القرى وعوامرها التي ترعى فيها مواشي أهلها من حقوق أهل القرية وأموالهم، وليس / للسُّلطان منعه إلَّا أن تفضل منه فضلةٌ.
          ومعنى قوله صلعم: (لَا حِمَى إِلَّا للهِ وَلِرَسُولِهِ) معناه: لا حمى لأحدٍ يخصُّ به نفسه، وإنَّما هو لله ورسوله، أو لمن ورث ذلك عنه صلعم من الخلفاء الشَّامل للمسلمين وما يحتاجون إلى حمايته.