شرح الجامع الصحيح لابن بطال

كتاب الإكراه

          ♫
          ░░89▒▒ كِتَاب الإكْرَاهِ
          وَقَوْلِ اللهِ ╡: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} الآية(1)[النحل:106].
          وَقَالَ تعالى: {إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً}[آ ل عِمْرَان:28]وَهِيَ تَقِيَّةٌ، وَقَالَ عز ذكره: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ}[النساء:97]إلى قوله(2):{إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا. فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ}(3)[النساء:98-99]، وَقَالَ تعالى: {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا}(4)[النساء:75].
          فَعَذَرَ اللهُ الْمُسْتَضْعَفِينَ الَّذِينَ لا يَمْتَنِعُونَ مِنْ تَرْكِ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ، وَالْمُكْرَهُ / لا يَكُونُ إِلَّا مُسْتَضْعَفًا غَيْرَ مُمْتَنِعٍ مِنْ فِعْلِ مَا أُمِرَ بِهِ.
          وَقَالَ الْحَسَنُ: التَّقِيَّةُ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَنْ يُكْرِهُهُ اللُّصُوصُ فَيُطَلِّقُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ الزُّبَيْرِ والشَّعبِيُّ وَالْحَسَنُ، وَقَالَ النَّبيُّ صلعم: (الأعْمَالُ بِالنِّيَّات).
          فيه(5): أَبُو هُرَيْرَةَ: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم كَانَ يَدْعُو في صَلاَتِهِ: اللَّهُمَّ أَنْجِ عَيَّاشَ بْنَ أبي رَبِيعَةَ وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ وَالْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، اللَّهُمَّ أَنْجِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ على مُضَرَ واجْعَلْهَا(6) عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ). [خ¦6940]
          قال المؤلِّف(7): ذكر أهل التفسير بأنَّ(8) هذه الآية نزلت في ناسٍ من أهل مكَّة آمنوا فكتب إليهم بعض أصحابهم بالمدينة: لستم منَّا حتَّى تهاجروا إلينا. وكان فيهم عمَّار بن ياسرٍ، فخرجوا يريدون المدينة، فأدركتهم قريشٌ في الطريق(9) ففتنوهم على الكفر فكفروا مكرهين فنزلت: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ}[النحل:106].
          أجمع العلماء على أنَّ من أُكرِه على الكفر حتَّى خشي على نفسه القتل أنَّه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان، ولا تبين منه زوجته، ولا يُحكَم عليه بحكم الكفر، هذا قول مالكٍ والكوفيِّين والشافعيِّ، غير محمَّد بن الحسن فإنَّه قال: إذا أظهر الشرك كان مرتدًّا في الظاهر، وهو فيما بينه وبين الله ╡ على الإسلام، وتبين منه امرأته، ولا يصلَّى عليه إن مات، ولا يرث أباه إن مات مسلمًا. وهذا قولٌ تغني حكايته عن الردِّ عليه لمخالفته للآيات المذكورة في أوَّل هذا الباب.
          وقالت طائفةٌ: إنَّما جاءت(10) الرخصة في القول(11)، وأمَّا في الفعل فلا رخصة فيه مثل أن يكرهوه على السجود لغير الله، أو الصلاة لغير القبلة، أو قتل مسلمٍ أو ضربه، أو أكل ماله، أو الزنا، أو شرب الخمر، وأكل الخنزير، روي هذا عن الحسن البصريِّ، وهو قول الأوزاعيِّ وسَحنون، قال الأوزاعيُّ: إذا أُكرِه الأسير على شرب الخمر لا يفعل وإن قتله.
          وقال إسماعيل بن إسحاق: حدَّثنا نصر بن عليٍّ قال(12): حدَّثنا عبد الأعلى، عن عوفٍ، عن الحسن أنَّه كان لا يجعل في النفس التي حرَّم الله التقيَّة. وقال محمَّد بن الحسن: إذا قيل للأسير اسجد لهذا(13) الصنم وإلَّا قتلناك، فقال: إن كان الصنم مقابل القبلة فليسجد وتكون نيَّته لله تعالى وإن كان لغير القبلة فلا يسجد وإن قتلوه.
          وقالت طائفةٌ: الإكراه في الفعل والقول سواءٌ إذا أسرَّ الإيمان.
          روي ذلك عن عُمَر بن الخطَّاب(14) ومكحولٍ، وهو قول مالكٍ وطائفةٍ من أهل العراق، وروى ابن(15) القاسم عن مالكٍ أنَّه إن أُكرِه على شرب الخمر أو ترك الصلاة والإفطار في رمضان فالإثم عنه مرفوعٌ(16) إلَّا أنَّه لا يجوز عند مالكٍ وعامَّة العلماء أن يقتل غيره ولا ينتهك حرمته ولا يظلمه ولا يفعل الزنا وإن أكره على ذلك.
          قال إسماعيل بن إسحاق: وقول من جعل التقيَّة في القول ما يشبه ما نزل في القرآن من ذلك؛ لأنَّ الذين أكرهوا عليه إنَّما هو كلامٌ تكلَّموا به ولم يظلموا فيه أحدًا من الناس، وإنَّما هو أمرٌ فيما بينهم وبين ربِّهم، فلمَّا أُكرِهوا عليه ولم يكونوا له معتقدين جعل كأنَّه لم يكن؛ لأنَّ الكلام ليس يؤثِّر بأحدٍ أثرًا في نفسٍ ولا مالٍ، وأفعال الأبدان ليست كذلك؛ لأنَّها تؤثِّر في الأبدان والأموال ولا يجوز لأحدٍ أن ينجي نفسه من القتل بأن يقتل غيره ظلمًا(17) وإن أكره على ذلك. وقال الأبهريُّ: لا يجوز لأحدٍ أن يكره على هتك حرمة آدميٍّ؛ لأنَّ حرمته ليست بأوكد من حرمة الآخر.
          واختلفوا في طلاق المكره، فذكر ابن وهبٍ عن عُمَر بن الخطَاب وعليِّ بن أبي طالبٍ وابن عبَّاسٍ أنَّهم كانوا لا يرون طلاقه شيئًا، وذكره ابن المنذر عن ابن الزبير وابن عمر وابن عبَّاسٍ وعطاءٍ وطاوسٍ والحسن وشريحٍ والقاسم وسالمٍ ومالكٍ والأوزاعيِّ والشافعيِّ وأحمد وإسحاق وأبي ثورٍ.
          وأجازت طائفةٌ طلاق المكره، روي ذلك عن الشعبيِّ والنخعيِّ وأبي قِلابة والزهريِّ وقَتادة، وهو قول الكوفيِّين. وفيها قولٌ ثالثٌ قاله الشَّعبيُّ: إن أكرهه اللصوص فليس بطلاقٍ، وإن أكرهه السلطان فهو طلاقٌ. وفسَّره ابن عيينة فقال: إنَّ اللص يقدم / على قتله، والسلطان لا يقتله. واحتجَّ الكوفيُّون بقوله صلعم: ((ثلاثٌ جدُّهنَّ جدٌّ، وهزلهنَّ جدٌّ: الطلاق، والعتاق، والنكاح)) والهازل لم يقصد إيقاع الطلاق ولزمه، فالمكره كذلك.
          واحتجَّ عليهم أهل المقالة الأولى فقالوا: إنَّ الفرق بين طلاق الهازل وطلاق المكره أنَّ الهازل قاصدٌ للفظ، مؤثرٌ له فلزمه حكمه، والمكره وإن قصد اللفظ فإنَّه لم يؤثره ولا اختاره فلم يتعلَّق به حكمه. ووجدنا الطلاق لا يلزم إلَّا بلفظٍ ونيَّةٍ، والمكره لا نيَّة له إنَّما طلَّق بلسانه لا بقلبه، فلمَّا رفع الله عنه الكفر الذي تكلَّم به مكرهًا(18) ولم يعتقده وجب رفع الطلاق لرفع النيَّة فيه. وقول مالكٍ هو إجماع الصحابة ولا مخالف منهم.
          وأجمع المسلمون على أنَّ المشركين لو أكرهوا رجلًا على الكفر بالله بلسانه وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان وله زوجةٌ حرَّةٌ مسلمةٌ أنَّها لا تحرم عليه، ولا يكون مرتدًّا بذلك، والردَّة فرقةٌ بائنةٌ فهذا يقضي على اختلافهم في طلاق المكره.
          واختلفوا في حدِّ الإكراه، فروي عن عُمَر بن الخطَّاب أنَّه قال: ليس الرجل أمينًا على نفسه إذا أخفته أو أوثقته أو ضربته. وقال ابن مسعودٍ: ما كلامٌ يدرأ عنِّي سوطين إلَّا كنت متكلِّمًا به. وقال شريحٌ والنخعيُّ: القيد كرهٌ، والوعيد كرهٌ، والسجن كرهٌ. قال ابن سَحنون: وهذا كلُّه عند مالكٍ وأصحابه كرهٌ والضرب عندهم كرهٌ، وليس عندهم في الضرب والسجن توقيتٌ، إنَّما هو ما كان يؤلم من الضرب، وما كان من سجنٍ يدخل منه(19) الضيق على المكره قلَّ أو كثر، فالضيق يدخل في قليل السجن، وإكراه السلطان وغيره إكراهٌ عند مالكٍ.
          وتناقض أهل العراق ولم(20) يجعلوا القيد والسجن إكراهًا على شرب الخمر وأكل الميتة؛ لأنَّه لا يخاف منه التلف، وجعلوه إكراهًا في إقراره لفلانٍ عندي ألف درهمٍ.
          قال ابن سَحنون: وفي إجماعهم على أنَّ الألم والوجع الشديد إكراهٌ ما يدلُّ على أنَّ الإكراه يكون من غير تلف نفسٍ.


[1] في (ص): ((ولكن من أكره وقلبه))، وقوله ((الآية)) غير واضحة في (ص).
[2] قوله: ((قوله)) ليس في (ص).
[3] قوله: ((....ئِكَ عَسَى اللهُ أَن))ليس في (ص).
[4] في (ص): ((إلا المستضعفين إلى الظالم أهلها)).
[5] في (ص): ((وفيه)).
[6] في (ص): ((وابعث)).
[7] في (ص): ((المهلب)).
[8] في (ص): ((أن)).
[9] قوله: ((في الطريق)) ليس في (ص).
[10] في (ص): ((جازت)).
[11] في (ص): ((الترك)).
[12] قوله: ((قال)) ليس في (ص).
[13] في (ص): ((لذلك)).
[14] في (ص): ((عمر بن عبدالعزيز)).
[15] قوله: ((ابن)) ليس في (ص).
[16] في (ص): ((فلا إثم عليه)).
[17] في (ص): ((ظالمًا)).
[18] قوله: ((مكرهًا)) ليس في (ص).
[19] في (ص): ((به)).
[20] في (ص): ((فلم)).