شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب أهل الدار يبيتون فيصاب الولدان والذراري

          ░146▒ باب: / أَهْلِ الدَّارِ يُبَيَّتُونَ فتُصَابُ الْوِلْدَانُ وَالذَّرَارِيُّ {بَيَاتًا}[الأعراف:6]: لَيْلًا.
          فيه: الصَّعْبُ: (مَرَّ بِيَ النَّبيُّ صلعم بِالأبْوَاءِ _أَوْ بِوَدَّانَ_ فَسُئِلَ عَنْ أَهْلِ الدَّارِ يُبَيَّتُونَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فتُصَابُ مِنْ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ، قَالَ: هُمْ مِنْهُمْ، وَسَمِعْتُهُ، يَقُولُ: لا حِمَى إِلا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ). [خ¦3012] [خ¦3013]
          اختلف الفقهاء في العمل بهذا الحديث، فتركه قوم وذهبوا إلى أنَّه لا يجوز قتل النِّساء والولدان في الحرب على كلِّ حالٍ، وأنَّه لا يحلُّ أن يقصد إلى قتل غيرهم إذا كان لا يؤمن في ذلك تلفهم مثل أن يتترَّس أهل الحرب بصبيانهم ولا يستطيع المسلمون رميهم، إلَّا بإصابة صبيانهم فحرامٌ عليهم رميهم، وكذلك إن تحصَّنوا بحصنٍ أو سفينةٍ وجعلوا فيها نساءً وصبيانًا وأسارى مسلمين فحرامٌ رمي ذلك الحصن وحرق تلك السَّفينة؛ إذا كان يخاف تلف النِّساء والصِّبيان والأسارى.
          واحتجُّوا بعموم نهيه ◙ عن قتل النِساء والصِبيان، وبعموم قوله تعالى: {لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}[الفتح:25]هذا قول مالكٍ والأوزاعيِّ.
          وقال الكوفيُّون والشَّافعيُّ: إنَّما وقع النَّهي عن قتل النِّساء والصِّبيان إذا قصد إلى قتلهم، فأمَّا إذا قصد إلى قتل غيرهم ممَّن لا يوصل إلى ذلك منهم إلَّا بتلف نسائهم وصبيانهم فلا بأس بذلك، واحتجُّوا بقوله ◙: (هُمْ مِنْهُم).
          قال الطَّحاويُّ: فلما لم ينههم النَّبيُّ صلعم عن الغارة، وقد كان يعلم أنَّهم يصيبون فيهم الولدان والنِّساء الذي يحرم القصد إلى قتلهم دلَّ ذلك أنَّ ما أباح في حديث الصَّعب معنى غير المعنى الذي من أجله منع قتلهم في حديث ابن عمر، وأنَّ الذي أباح هو القصد إلى قتل المشركين وإن كان في ذلك تلف غيرهم ممَّن لا يحلُّ القصد إلى قتله؛ حتَّى لا تتضادَّ الآثار.
          وقد أمر ◙ بالغارة على العدوِّ في آثار متواترةٍ، ولم يمنعه من ذلك ما يحيط به علمًا أنَّه لا يؤمن من تلف النِّساء والولدان في ذلك، والنَّظر يدلُّ على ذلك أيضًا، وقد روي عن رسول الله في الذي عضَّ يد رجلٍ فانتزع يده فسقطت ثنايا العاضِّ؛ فأبطل ذلك ◙.
          قال الطَحاويُّ: فلمَّا كان المعضوض نزع يده وإن كان في ذلك تلف ثنايا غيره وكان حرامًا عليه القصد إلى نزع ثنايا غيره بغير إخراج يده من فيه ولم يكن القصد في ذلك إلى غير التَّلف كالقصد إلى التَّلف في الإثم ولا في وجوب العقل، كان كذلك من له أخذ شيءٍ وفي أخذه إيَّاه تلف غيره ممَّا يحرم عليه القصد إلى تلفه، فكذلك العدوُّ قد جعل لنا قتالهم، وحرم علينا قتل نسائهم وذراريِّهم فحرامٌ علينا القصد إلى ما نهينا عنه من ذلك، وحلالٌ لنا القصد إلى ما أبيح لنا، وإن كان فيه تلف غيره ممَّا حرم علينا.
          وقوله في حديث الصَّعب: (لَا حِمَى إِلَّا للهِ وَلِرَسُولِهِ) فلا شيء فيه من معنى ما تقدَّم من التَّبييت، هو سببه بما روي عن أبي هريرة عن النَّبيِّ صلعم ((نحن الآخرون السَّابقون يوم القيامة))، ثمَّ وصل ذلك المحدِّث بكلامٍ آخر ليس فيه شيءٌ من معنى ما قبله، وإنَّما كانوا يحدِّثون بالأحاديث على نحو ما كانوا يسمعونها، وقد تقدَّم بيان هذا في كتاب الطَّهارة في باب: لا يبول في الماء الدَّائم. [خ¦238]