شرح الجامع الصحيح لابن بطال

كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة

          ░░86م▒▒ كِتَابُ المُحَارِبِينَ
          باب: الْمُحَارِبِينَ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالرِّدَّةِ
          وَقَوْلِ اللهِ ╡: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ} الآية[المائدة:33].
          فيه: أَنَسٌ: قال: (قَدِمَ على النَّبيِّ صلعم نَفَرٌ مِنْ عُكْلٍ فَأَسْلَمُوا، فَاجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَأْتُوا إِبِلَ الصَّدَقَةِ فَيَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا فَفَعَلُوا فَصَحُّوا فَارْتَدُّوا وَقَتَلُوا رُعَاتَهَا وَاسْتَاقُوا الإبِلَ، فَبَعَثَ في آثَارِهِمْ فَأُتِيَ بِهِمْ فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ، ثُمَّ لَمْ يَحْسِمْهُمْ حَتَّى مَاتُوا). [خ¦6802]
          قال المؤلِّف: ذهب البخاريُّ في هذا الحديث _والله أعلم_إلى أنَّ آية المحاربين نزلت في أهل الكفر والردَّة، ولم يُبيَّن ذلك في الحديث، وقد بيَّن عبد الرزَّاق في روايته قال: حدَّثنا معمرٌ عن قَتادة، عن أنسٍ فذكر الحديث. قال قَتادة: فبلغنا أنَّ هذه الآية نزلت فيهم {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ} الآية كلَّها[المائدة:33]. وذكر مثله عن أبي هريرة وممَّن قال: إنَّ هذه الآية نزلت في أهل الشرك: الحسن والضحَّاك وعطاءٌ والزهريُّ.
          وذهب جمهور الفقهاء إلى أنَّها نزلت فيمن خرج من المسلمين يسعى في الأرض بالفساد ويقطع الطريق، هذا قول مالكٍ والكوفيِّين والشافعيِّ وأبي ثورٍ، إلَّا أنَّ بعض هؤلاء يقولون إن حدَّ المحارب على قدر ذنبه على ما يأتي تفسيره في هذا الباب.
          وليس قول من قال: إنَّ الآية نزلت في المسلمين منافٍ في المعنى لقول من قال إنَّها نزلت في أهل الردَّة والمشركين؛ لأنَّ الآية وإن كانت نزلت في المرتدِّين بأعيانهم فلفظها عامٌّ يدخل في معناه كلُّ من فعل مثل فعلهم من المحاربة والفساد في الأرض، ألا ترى أنَّ الله تعالى جعل قصر الصلاة في السفر بشرط الخوف ثمَّ ثبت القصر للمسافرين وإن لم يكن خوفٌ لما يجمعها من المعنى.
          قال إسماعيل بن إسحاق: وظاهر كتاب الله تعالى وما مضى عليه عمل المسلمين يدلُّ أنَّ هذه الحدود نزلت في المسلمين؛ لأنَّ الله تعالى قال: {إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ}[محمد:4]وقال تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً}[التوبة:36]. فلم يذكر فيهم إلَّا القتل والقتال؛ لأنَّهم إنَّما يقاتلون على الديانة لا على الأعمال التي يعملونها من سرقٍ أو قطع طريقٍ أو غيره، وإذا ذكرت الحدود التي تجب على الناس من الحرابة والفساد في الأرض أو السرقة وغيرها لم تسقط عن المسلمين؛ لأنَّها إنَّما وجبت من طريق أفعال الأبدان لا من طريق اعتقاد الديانات. ولو كان حدُّ المحارب في الكافر خاصَّةً لكانت الحرابة قد نفعته في أمر دنياه لأنَّا نقتله بالكفر.
          فإن كان إذا أحدث الحرابة مع الكفر جاز لنا أن نقطع يده ورجله من خلافٍ أو نفيه من الأرض ولا نقتله فقد خُفِّف عنه العقوبة.
          واحتجَّ أبو ثورٍ على من زعم أنَّها نزلت في أهل الشرك بقوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ}[المائدة:34].
          قال: ولا أعلم خلافًا بين العلماء في مشركين لو ظهر عليهم وقد قتلوا وأخذوا الأموال؛ فلمَّا صاروا في أيدي المسلمين وهم على حالهم تلك أسلموا قبل أن يحكم عليهم بشيءٍ أنَّهم لا يحلُّ قتلهم، فلو كان الأمر على ما قال من خالف قولنا كان قتلهم والحكم عليهم بالآية لازمًا وإن أسلموا، فلمَّا نفى أهل العلم ذلك دلَّ على أنَّ الحكم ليس فيهم.
          قال إسماعيل: وإنَّما سقط عنهم القتل وكلُّ ما فعلوه بقوله ╡: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ}[الأنفال:38].
          والذي مضى عليه قول شيوخ أهل العلم أنَّ المعنيَّ بهذا المسلمون، وأنَّهم إذا حاربوا ثمَّ تابوا من قبل أن يقدر عليهم فإنَّ هذه الحدود تسقط عنهم لأنَّها لله، وأمَّا حقوق العباد فإنَّها لا تسقط عنهم، ويقتصُّ منهم من النفس والجراح وأخذ ما كان معهم من المال أو قيمة ما استهلكوا. هذا قول مالكٍ والكوفيِّين والشافعيِّ وأبي ثورٍ. ذكره ابن المنذر.
          وأمَّا ترتيب أقوال العلماء الذين جعلوا الآية نزلت في المسلمين في حدِّ المحارب المسلم، فقال مالكٌ: إذا أشهر المحارب السلاح وأخاف السبيل ولم يقتل ولا أخذ مالًا كان الإمام مخيَّرًا فيه، فإن رأى أن يقتله أو يصلبه أو يقطع يده ورجله من خلافٍ أو ينفيه فعل.
          وقال الكوفيُّون والشافعيُّ: إذا لم يقتل ولا أخذ مالًا لم يكن عليه إلَّا التعزير، وإنَّما يقتله الإمام إن قتل، ويقطعه إذا سرق، ويصلبه إذا قتل وأخذ المال، وينفيه إذا لم يفعل شيئًا من ذلك، ولا يكون الإمام مخيَّرًا فيه.
          قال إسماعيل: فأجروا حكم المحارب كحكم القاتل غير المحارب، ولم توجب المحاربة عندهم شيئًا وقد ركب ما ركب من الفساد في الأرض وقد قال الله تعالى: {مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا}[المائدة:32]فجعل الفساد بمنزلة القتل.
          والمعنى _والله أعلم_ من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو بغير فسادٍ في الأرض فلم يحتج إلى أن تعاد غير وعطف الكلام على ما قبله، فجعل الفساد عدلًا للقتل.
          وإذا كان الشيء بمنزلة الشيء فهو مثله، فكان الفساد في الأرض بمنزل القتل. هذا قول إسماعيل وعبد العزيز بن أبي سلمة.
          قال إسماعيل: والذي يعرف من الناس من الكلام في كلِّ ما أمر به فقيل افعلوا كذا أو كذا، فإنَّ صاحبه مخيَّرٌ.
          وقال عطاءٌ ومجاهدٌ والضحَّاك: كلُّ شيءٍ في القرآن أو أو فهو خيارٌ.
          واحتجَّ من أسقط التخيير بقوله صلعم: ((لا يحلُّ دم امرئ مسلمٍ إلَّا بإحدى ثلاثٍ، رجلٌ كفر بعد إسلامه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفسًا بغير نفسٍ)).
          فجاوبهم أهل المقالة الأولى بأنَّ ظاهر هذا الحديث يدلُّ أنَّ المحارب غير داخلٍ فيه؛ لأنَّ قاتل النفس في غير المحاربة إنَّما أمره إلى وليِّ المقتول، وأمر المحارب إلى السلطان؛ لأنَّ فساده في الأرض لا يلتفت فيه إلى عفو المقتول، فعلمنا بهذا أنَّ المحارب لا يدخل في هذا الحديث، وإنَّما يدخل فيه القاتل الذي الأمر فيه إلى وليِّ المقتول إذا قتل فيه أو قتل نفسًا بغير نفسٍ فكأنَّه على مجرى القصاص، ولو كان على العموم لوجب أن يُقتَل كلُّ قاتلٍ قتل مسلمًا عمدًا.
          وقد رأينا مسلمًا قتل مسلمًا عمدًا لم يجب عليه القتل في قول جماعة المسلمين، وذلك أنَّهم أجمعوا في قتلى الجمل وصِفِّين أنَّه لا قصاص بينهم إذ كان القاتل المسلم إنَّما قتل المسلم المقتول عمدًا على التأويل في الدين، لم يقتله لثائرةٍ بينه وبينه، ولا قصد له في نفسه وإنَّما قصد في قتله للديانة(1) / عنده فسقط القود عنه(2) لذلك، فكذلك أمر المحارب إنَّما كان قصده قتل المسلم لقطع الطريق وأخذ الأموال والفساد في الأرض، فكان الأمر فيه إلى السلطان لا إلى وليِّ المقتول، فكما خرج قتلى صِفِّين والجمل من معنى هذا الحديث كذلك خرج المحارب من معناه.
          ويشهد لما قلناه ما رواه الأعمش عن عبد الله بن مرَّة قال: قال مسروقٌ: قال عبد الله: قال رسول الله صلعم: ((لا يحلُّ دم رجل مسلم إلَّا بإحدى ثلاثٍ. فعدَّ النفس بالنفس، والثيِّب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة(3))).
          قال إسماعيل: وقوله: ((المفارق الجماعة)) يدلُّ على الفساد في الأرض نحو الخوارج والمحاربين، فإذا كان الخوارج يحلُّ قتلهم وليسوا بمرتدِّين لفسادهم في الأرض، كذلك يحلُّ قتل المحاربين وإن لم يكونوا قتلوا ولا ارتدُّوا لفسادهم في الأرض.
          واختلف في صفة نفي المحارب، فعند مالكٍ أنَّه ينفيه إلى غير بلده ويحبسه فيه حتَّى يظهر توبته، وقال أبو حنيفة: نفيهم من الأرض هو أن يُحبَسوا في بلدهم. وقال الشافعيُّ: نفيهم هو إذا هربوا بعث الإمام خلفهم وطلبهم ليأخذهم ويقيم عليهم الحدَّ.
          قال ابن القصَّار: والنفي بعينه أشبه بظاهر القرآن لقوله تعالى: {أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ}[المائدة:33]وهذا يقتضي أن ينفيهم الإمام كما يقتلهم أو يصلبهم، وما قاله أبو حنيفة من الحبس في بلدهم فالنفي ضدُّ الحبس، وليس يعقل من النفي حبس الإنسان في بلده، وإنَّما يعقل منه إخراجه من وطنه وهو أبلغ في ردعه، ثمَّ يحبس في المكان الذي يخرج إليه حتَّى يُظهِر توبته، هذا حقيقة النفي، وهو أشدُّ في الردع والزجر، وقد قرن الله تعالى مفارقة الوطن بالقتل فقال: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم} الآية[النساء:66].


[1] في (ص): ((الديانة)).
[2] في (ص): ((فسقط عنه القود)).
[3] في (ص): ((الجماعة)).