شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: لا يقول فلان شهيد

          ░77▒ باب: لا يقال فُلانٌ شَهِيدٌ
          وَقَالَ النَّبي ◙: (اللهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُجَاهِدُ في سَبِيلِهِ).
          فيه: سَهْلٌ: (الْتَقَى النَّبيُّ صلعم وَالْمُشْرِكُونَ، فَاقْتَتَلُوا، وفي أَصْحَابِ الرَّسولِ صلعم رَجُلٌ لا يَدَعُ لَهُمْ شَاذَّةً وَلا فَاذَّةً إِلَّا اتَّبَعَهَا يَضْرِبُهَا بِسَيْفِهِ، فَقَالَ: مَا أَجْزَأَ أَحَدٌ مِنَّا الْيَوْمَ ما أَجْزَأَ فُلانٌ، فَقَالَ النَّبيُّ ◙: أَمَا إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فاتَّبعَهُ رَجُلٌ كُلَّمَا وَقَفَ وَقَفَ مَعَهُ، وَإِذَا أَسْرَعَ أَسْرَعَ معه فَجُرِحَ الرَّجُلُ جُرْحًا شَدِيدًا، فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ، فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ بِالأرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَقَالَ الرَّجُلُ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ، قَالَ الرَّسُولُ: وَمَا ذَاكَ؟ فَأَخبَرَهُ، فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ). [خ¦2898]
          قال المُهَلَّب: في هذا الحديث ضدُّ ما ترجم له البخاريُّ، أنَّه لا يقال: فلان شهيدٌ، ثمَّ أدخل هذا الحديث وليس فيه من معنى الشَّهادة شيءٌ وإنَّما فيه ضدُّها والمعنى الذي ترجم به قولهم: (مَا أَجزَأَ أَحدٌ مَا أَجزَأَ فُلانٌ) فمدحوا جزاءه وغناءه، ففهم الرَّسول صلعم منهم أنَّهم قضوا له بالجنَّة في نفوسهم بغنائه ذلك، فأوحى إليه بغيب مآل أمره لئلَّا يشهدوا لحيٍّ بشهادةٍ قاطعةٍ عند الله ولا لميِّتٍ، كما قال رسول الله في عثمان بن مظعون: ((والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل به)) وكذلك لا يعلم شيئًا من الوحي حتَّى يوحى إليه به ويعرف بغيبه، فقال: (إنَّه مِنْ أَهلِ النَّارِ) بوحيٍ من الله له.
          وفيه أنَّ صدق الخبر عمَّا يكون وخروجه على ما أخبر به المخبر زيادةٌ في زكاته وهو مِنَ النَّبيِّ صلعم من علامات نبوَّته وزيادة في يقين المؤمنين به، ألا ترى قول الرَّجل حين رأى قتله لنفسه: (أَشهدُ إِنَّكَ لَرَسولُ اللهِ) وهو كان قد شهد قبل ذلك. وقد قال أبو بكر الصِّدِّيق في غير ما قصَّة، حين كان يرى صدقٍ ما أخبر به النَّبيُّ صلعم كان يقول: أشهد أنَّك رسول الله.
          وفيه جواز الإغياء في الوصف لقوله: ما أجزأ أحدٌ كما أجزأ، ولا يدع لهم شاذَّةً ولا فاذَّةً، ولا شكَّ أن في أصحاب الرَّسول صلعم من كان فوقه، وأنَّه قد ترك شاذَّاتٍ وفاذَّاتٍ لم يدركها، وإنَّما خرج كلامه على الإغياء والمبالغة، وهو جائزٌ عند العرب.
          وقوله: (إِلَّا اتَّبَعَهَا يَضْرِبُهُ بِسَيْفِهِ) معناه: يضرب الشَّيء المتبوع؛ لأنَّ المؤنَّث قد يجوز تذكيره على معنى أنَّه شيءٌ، وأنشد الفرَّاء للأعرابيَّة:
تَركَتنِي في الحيِّ ذَا غُربَةٍ
          تريد ذات غربةٍ لكنها ذكرت على تقدير: تركتني في الحيِّ إنسانًا ذا غربةٍ، أو شخصًا ذا غربةٍ.