شرح الجامع الصحيح لابن بطال

كتاب الدعوات

          ♫(1)
          ░░80▒▒ كِتَابُ الدَّعَاء.
          ░1▒ بابُ قَوْلِ اللهِ ╡: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}.[غافر:60]
          وقَوْلِ النَّبيِّ صلعم: (لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ).
          فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ: قَالَ النَّبيُّ صلعم: (لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ يَدْعُو بِهَا، وَأُرِيدُ(2) أَنْ أَخْتَبئَ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي فِي الآخِرَةِ). [خ¦6304]
          وفيه: أَنَسٌ قَالَ: قَالَ النَّبيُّ صلعم: (كُلُّ نَبِيٍّ سَأَلَ سُؤَالًا، أَوْ قَالَ: لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ قَدْ دَعَا بِهَا، فَاسْتُجِيبَتْ، فَجَعَلْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ). [خ¦6305]
          قال المؤلِّف: أمر الله تعالى عبادَه بالدُّعاء وضمن لهم الإجابة في قولِه تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[غافر:60]فإن قيل: فقد علمت تأويل مَن تأوَّل قولَه ╡: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[غافر:60]ادعوني بطاعتكم إيَّاي وعبادتكم لي أستجب لكم في الَّذي التمستم مني بعبادتكم إيَّاي.
          قال الطَّبري: فالجواب أنَّ مِن طاعة العبدِ ربَّه(3) دعاؤُه إيَّاه ورغبتُه في حاجتِه إليه دون ما سواه، والمخلص له العبادة المتضرِّع إليه في حاجتِه موقن أنَّ قضاءَها بيدِه متعرِّض لنُجْحِها منه، ومِن عبادتِه إيَّاه تضرُّعه إليه فيها، وقد روى وكيع عن سفيان عن صالح مولى التَّوأمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلعم: ((مَنْ لَمْ يَدَعُ اللهَ غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ)).
          وروى شعبة عن منصور عن ذَرٍّ عن يُسَيْعٍ الحضرمي عن النُّعمان بن بشير عن النَّبيِّ صلعم قال: ((الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ)) وقرأ: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي}[غافر:60]فسمَّى الدَّعاء عبادة، وروى الأوزاعي عن الزُّهري عن عروة عن عائشة أنَّ(4) النَّبيَّ صلعم قال: ((إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُلِحِّينَ فِي الدُّعَاءِ)) فإن ظنُّ ظانٌّ أنَّ قول أبي الدَّرداء يكفي مِن(5) الدُّعاء مع العمل ما يكفي الطَّعام مِن الملح. وقيل لسفيان: اُدْعُ؟ قال(6): إنَّ ترك الذُّنوب هو الدُّعاء. مخالف لما جاء مِن فضل الإلحاح في الدُّعاء والأمر بالدُّعاء والضَّراعة إلى الله تعالى فقد ظنَّ خطأً.
          وذلك أنَّ الَّذي جُبِلَت عليه النُّفوس أنَّ مَن طلب حاجةً ممَّن هو عليه ساخطٌ لأمر تقدَّم منه استوجب به سخطَه أنَّه بالحرمان أولى ممَّن / هو عنه راضٍ لطاعتِه له واجتنابِه سخطَه، فإذا علم مِن عبدِه المطيع له حاجةً إليه كفاه اليسير مِن الدُّعاء. فإن قيل: هل مِن علامة يعلم بها إجابة الله العبد في دعائِه؟.
          قيل: قد جاء في ذلك غير شيء، منها ما روى شهر بن حَوْشَب: أنَّ أمَّ الدَّرداء قالت له: يا شهر إنَّ شَفَقَ المؤمن في قلبِه كسعفة أحرقتَها في النَّار، ثم قالت(7): يا شهر ألا تجد القشعريرة؟ قلت: نعم. قالت: فادع الله فإنَّ الدُّعاء يستجاب عند ذلك.
          وروى ابن وهب عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير أنَّه سمع أبا رُهْم السِّمَاعي يقول: ما يشعر به عند الدُّعاء العطاس(8).
          قال المؤلِّف: فإن قيل: ما معنى قولِه صلعم: ((لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ)) وقد قال الله تعالى للنَّاس كافَّة: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[غافر:60]فعمَّ كلَّ الدُّعاء، وهذا وعد مِن الله تعالى لعبادِه وهو لا يخلف الميعاد، وإنَّما خصَّ كل نبيٍّ بدعوة واحدة مستجابة، فأين فضل درجة النُّبوَّة؟ قيل: ليس الأمر كما ظننت، ولا يدلُّ قولُه تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[غافر:60]على أنَّ كلَّ دعاء مستجاب لداعيه، وقد قال قَتادة: إنَّما يستجاب مِن الدُّعاء ما وافق القدر.
          وليس قولُه: (لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ) ممَّا يدلُّ أنَّه لا يُستجاب للأنبياء غير دعوة واحدة، وقد ثبت عن النَّبيِّ صلعم أنَّه أُجيبت دعوتُه في المشركين حين دعا عليهم بسبع كسبع يوسف، ودعا على صناديد قريش المعاندين له، فقُتلوا يوم بدر، وغير ذلك ممَّا يكثر إحصاؤُه ممَّا أُجيب مِن دعائِه، بل لم يبلغنا أنَّه رُدَّ مِن دعائِه ◙ إلَّا سؤالُه أن لا يجعل الله بأس أُمَّتِه بينَهم خاصةً لِمَا سبق في أمِّ الكتاب مِن كون ذلك قال الله تعالى(9): {وَلَوْ شَاءَ اللّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}[البقرة:253]. ومعنى قولِه: (لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ) يريد أنَّ لكل نبيٍّ عند الله مِن رفيع الدَّرجة وكرامة المنزلة أن جعل له أن يدعوه فيما أحبَّ مِن الأمور ويبلِّغَه أمنيتَه، فيدعو في ذلك وهو عالم بإجابة الله تعالى له على ما ثبت عنه أنَّ جبريل صلعم قال له: يا محمَّد، إن أردت أن يحوِّل الله لك جبال تهامة ذهبًا فعل، وخيَّره الله(10) بين أن يكون نبيًّا عبدًا ونبيًّا ملكًا(11) فاختار الآخرة على الدُّنيا، وليست هذه الدَّرجة لأحد مِن النَّاس، وإنَّما أمر(12) بالدعاء راجين الإجابة غير قاطعين عليها ليقفوا تحت الرَّجاء والخوف.
          وفي هذا الحديث بيان فضيلة نبيِّنا صلعم على سائر الأنبياء ‰ حين آثر أمَّته بما خصَّه الله تعالى به مِن إجابة الدَّعوة بالشَّفاعة لهم، ولم يجعل ذلك في خاصَّة نفسِه وأهل بيتِه فجزاه الله عن أُمَّتِه أفضل الجزاء، وصلى عليه(13) أطيب الصَّلاة، فهو كما وصفَه الله: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}[التوبة:128].


[1] قوله: ((╖)) ليس في (ت) و(ص).
[2] في (ص): ((فأريد)).
[3] في (ت) و(ص): ((من طاعة العبودية)).
[4] في (ص): ((عن)).
[5] في (ز): ((مع)) والمثبت من (ت) و (ص).
[6] في (ت) و(ص): ((ادع الله؟ فقال)).
[7] قوله: ((يا شهر إن شفق المؤمن في قلبه كسعفة أحرقتها في النار، ثم قالت)) ليس في (ت) و(ص).
[8] في (ت) و(ص): ((العطاس)).
[9] في (ت): ((قال تعالى)).
[10] قوله: ((الله)) ليس في (ص).
[11] في (ت): ((يكون نبياً عبداً أو نبياً ملكاً))، وفي (ص): ((يكون نبياً عبداً وبين أن يكون نبياً ملكاً)).
[12] كذا في نسخنا: ((أمر)) وفي المطبوع: ((أمروا))
[13] في المطبوع: ((وصلى الله عليه)).