شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: إذا غنم المشركون مال المسلم ثم وجده المسلم

          ░187▒ باب: إِذَا غَنِمَ المشْرِكُونَ مَالَ المسْلِمِ ثُمَّ وَجَدُه المسْلِمُ
          فيه: ابْنُ عُمَرَ، أَنَّهُ أَبَقَ لَهُ غلامٌ فَلَحِقَ بِالرُّومِ، فَظَهَرَ عَلَيْهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَرَدَّهُ عَلَيهِ، وَأَنَّ فَرَسًا لَهُ عَارَ فَلَحِقَ بِالرُّومِ فَظَهَرَ عَلَيْهِ، فَرَدُّوهُ عَلَيهِ. [خ¦3067]
          وقال مَرَّةً: أَنَّهُ كَانَ على فَرَسٍ يَوْمَ لَقِيَ الْمُسْلِمُونَ، وَأَمِيرُهُم يَوْمَئِذٍ خَالِدُ، بَعَثَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَأَخَذَهُ الْعَدُوُّ، فَلَمَّا هُزِمَ الْعَدُوُّ، رَدَّ خَالِدٌ فَرَسَهُ. [خ¦3069]
          اختلف العلماء في ملك أهل الحرب، هل يملكون علينا؟ فإن غنمناه وجاء صاحبه قبل القسمة أخذه بغير شيءٍ، وإن جاء بعد القسمة أخذه بالقيمة، وهو قول عُمَر بن الخطَّاب وعليِّ بن أبي طالبٍ وزيد بن ثابتٍ، ومن التَّابعين سعيد بن المسيِّب وعطاءٍ والقاسم وعروة، وبه قال أحمد بن حنبل. وقال الحسن البصريُّ والزُّهريُّ: لا يردُّ إلى صاحبه / قبل القسمة ولا بعدها.
          وقال الشَّافعيُّ: لا يملك أهل الحرب علينا بالغلبة، ولصاحبه أخذه قبل القسمة وبعدها بغير شيءٍ. واحتجَّ الشَّافعيُّ بحديث حمَّاد بن زيدٍ، عن أيُّوب، عن أبي قِلابة، عن أبي المُهَلَّب، عن عِمْرَان بن حصين قال: أغار المشركون على سرح المدينة وأخذوا العضباء وامرأةً من المسلمين، فلمَّا كان في اللَّيل قامت المرأة وقد ناموا، فركبت العضباء وتوجَّهت قبل المدينة، ونذرت لئن نجَّاها الله لتنحرنَّها، فلمَّا قدمت المدينة عرفت النَّاقة، فأتوا بها النَّبيَّ صلعم فأخبرته المرأة بنذرها فقال: ((بئسما جزيتها، لا نذر فيما لا يملك ابن آدم، ولا نذر في معصية))، وزاد عبد الوهَّاب الثَّقفيُّ قال: قال أبو أيُّوب السَّختيانيُّ(1): فأخذها النَّبيُّ صلعم. فهذا دليلٌ على أنَّ أهل الحرب لا يملكون علينا بغلبةٍ ولا غيرها، ولو ملكوا علينا لملكت المرأة النَّاقة كسائر أموالهم لو أخذت شيئًا منها، ولو ملكتها لصحَّ فيها نذرها.
          وحجَّة مالكٍ والجماعة حديث ابن عمر في الغلام والفرس وأنَّهما رُدَّا عليه قبل القسمة، وأيضًا ما رواه عبد الملك بن ميسرة، عن طاوسٍ، عن ابن عبَّاسٍ: أنَّ رجلًا وجد بعيرًا له كان المشركون أصابوه، فقال رسول الله صلعم: ((إن أصبته قبل أن يقسم فهو لك، وإن أصبته بعد ما قسم أخذته بالقيمة)).
          قال ابن القصَّار: فدلَّ على أنَّ أهل الحرب قد ملكوه على المسلمين وصارت لهم يدٌ عليه، ألا ترى أنَّه لو كان باقيًا على ملك مالكه لم يختلف حكم وجوده قبل القسمة وبعدها، والذي يقوِّي هذا أنَّ العدوَّ لو أتلفه ثمَّ أسلم لم يتبع بقيمته، ولو أتلفه مسلمٌ على مسلمٍ لزمه غرمه، ولمَّا جاز أن يملك المسلم على الكافر بالقهر والغلبة جاز أن يملك الكافر عليه بذلك.
          ودليلٌ آخر: وهو قوله صلعم: ((وهل ترك لنا عقيلٌ منزلًا)) وكان عقيلٌ استولى على دور النَّبيِّ صلعم وباعها، فلولا أنَّ عقيلًا ملكها بالغلبة وباعها لأبطل النَّبيُّ صلعم بيعها ولم يجز تصرُّفه؛ لأنَّ بيع ما لا يصحُّ ملكه لا حكم له.
          فإن قيل: خبر ابن عبَّاسٍ رواه الحسن بن عُمارة وهو ضعيفٌ؛ فإنَّ الطَّحاويُّ ذكر أنَّ عليَّ بن المدينيِّ روى عن يحيى عن شعبة أنَّه سأل مِسعَرًا عن هذا الحديث فقال: هو من حديث عبد الملك بن ميسرة، فأثبته من حديثه، فدلَّ أنَّه قد رواه غير الحسن بن عُمارة، فاستغنى عن روايته بشهرته عن عبد الملك بن ميسرة. وأمَّا خبر النَّاقة والمرأة فلا حجَّة لهم فيه لأنَّ قوله صلعم: ((لا نذر لابن آدم فيما لا يملك)) إنَّما كان قبل أن تملك المرأة النَّاقة لأنَّها قالت ذلك وهي في دار الحرب، وكلُّ النَّاس تقول: إنَّ من أخذ شيئًا من أهل الحرب فلم ينجح به إلى دار الإسلام أنَّه غير مُحْرِزٍ له، ولا يقع عليه ملكه حتَّى يخرج به إلى دار الإسلام. فلهذا قال صلعم: ((لا نذر لابن آدم فيما لا يملكه)) هذا وجه الحديث.
          وقال ابن القصَّار: ما أحرزه المشركون وخرج عن أيديهم إلى المسلمين، فإن لم يقع في المقاسم ولا حصل بيد إنسان بعوضٍ فإنَّه يعود إلى ملك صاحبه، فالمرأة لمَّا أخذت النَّاقة بغير عوضٍ انتقل ملكها عن المشركين وحصل للنَّبيِّ صلعم، فأمَّا إذا قسمت الغنائم وحصل الشَّيء في يد أحد حصلت له شبهة ملكٍ لأجل أنَّه حصل له بعوضٍ؛ لأنَّ الغانمين قد اقتسموا وتفرَّقوا، فإن أعطاه الإمام القيمة جاز، وإن لم يعطه لم يأخذه صاحبه إلَّا بعوض؛ لأنَّ القسم حكم الإمام مع كون شبهه يد الكفَّار فيصير للغانم بحكم الإمام.
          قال الطَّحاويُّ: والدَليل أنَ المرأة لمَّا أخذت النَّاقة انتقل ملكها للنَّبيِّ صلعم ما رواه سفيان، عن سِمَاك بن حربٍ، عن تميم بن طرفة: أنَّ رجلًا أصاب العدوُّ له بعيرًا، فاشتراه رجلٌ منهم، فجاء به فعرفه صاحبه، فخاصمه إلى النَّبيِّ صلعم فقال: ((إن شئت أعطه ثمنه الذي اشتراه به وهو لك، وإلَّا فهو له)) فهذا وجه الحكم في هذا الباب من طريق الآثار.
          وأمَّا من طريق النَّظر فرأينا النَّبيَّ صلعم حكم في مشتري البعير من أهل الحرب أنَّ لصاحبه أن يأخذه منه بالثَّمن وكان قد تملَّكه المشتري من الحربيِّين، كما يملك / الذي يقع في سهمه من الغنيمة ما يقع في سهمه منها، فالنَّظر على ذلك أن يكون الإمام إذا قسم الغنيمة فوقع منها في يد رجلٍ شيءٌ، وإن كان أسر ذلك من يد آخر أن يكون المأسور من يده من الذي وقع في سهمه بقيمته، كما يأخذ من يد مشتريه بثمنه.
          وقوله: (إِنَ فَرَسًا عَارَ) قال صاحب «العين»: يقال: عار الفرس والكلب وغير ذلك عيارًا: أفلت وذهب في النَّاس.
          قال الطَّبريُّ: يقال ذلك للفرس إذا فعله مرَّةً بعد مرَّةً، ومنه قيل للبطَّال من الرِجال الذي لا يثبت على طريقة: عيارٌ، ومنه سهمٌ عائرٌ: لا يدرى من أين أتى.


[1] في (ص): ((أبو داود السجستاني)) والمثبت من المطبوع.