شرح الجامع الصحيح لابن بطال

[كتاب الجزية والموادعة]

          ░░58▒▒ كِتَاب الجِزيَةِ
          ░1▒ باب الْجِزْيَةِ وَالْمُوَادَعَةِ مَعَ أَهْل الذمةِ وَالْحَرْبِ
          وقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} إلى قوله: {صَاغِرُونَ}[التوبة:29]، وَمَا جَاءَ(1) في أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ وَالْعَجَمِ.
          وَقَالَ ابْنُ عُيينةَ، عَنِ ابْنِ أبي نَجِيحٍ قُلْتُ(2) لِمُجَاهِدٍ: مَا شَأْنُ أَهْلِ الشَّأْمِ عَلَيْهِمْ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ، وَأَهْلُ الْيَمَنِ عَلَيْهِمْ دِينَارٌ؟ قَالَ: جُعِلَ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ الْيَسَارِ.
          فيه: جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، عن بَجَالَةَ، قَالَ: (كُنْتُ كَاتِبًا لِجَزْءِ بْنِ مُعَاوِيَةَ _عَمِّ الأحْنَفِ_ فَأَتَانَا كِتَابُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَةٍ، فَرِّقُوا بَيْنَ كُلِّ ذِي مَحْرَمٍ مِنَ الْمَجُوسِ، وَلَمْ يَكُنْ عُمَرُ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنَ الْمَجُوسِ حَتَّى شَهِدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ). [خ¦3156] [خ¦3157]
          وفيه: عَمْرُو بْنُ عَوْفٍ: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ إلى الْبَحْرَيْنِ، فَأْتِي بِجِزْيَتِهَا، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلعم هُوَ صَالَحَ الْبَحْرَيْنِ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمُ الْعَلاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ، فَقَدِمَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِمَالٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ، فَسَمِعَتِ الأنْصَارُ بِقُدُومِ أبي عُبَيْدَةَ، في وَقتِ صَلاةِ الصُّبْحِ مَعَ النَّبيِّ صلعم فَلَمَّا صَلَّى بِهِمُ الْفَجْرَ انْصَرَفَ، يتَعَرَّضُون لَهُ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ صلعم حِينَ رَآهُمْ، وَقَالَ: أَظُنُّكُمْ سَمِعْتُمْ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَجَاءَ بِشَيْءٍ، قَالُوا: أَجَلْ، يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ، فَوَاللهِ لا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخَشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ على مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ). [خ¦3158]
          وفيه: جُبَيْرُ بْنُ حَيَّةَ، قَالَ: بَعَثَ عُمَرُ النَّاسَ في أَفْنَاءِ الأمْصَارِ يُقَاتِلُونَ الْمُشْرِكِينَ، فَأَسْلَمَ الْهُرْمُزَانُ، فَقَالَ: إِنِّي مُسْتَشِيرُكَ في مَغَازِيَّ هَذِهِ، قَالَ: نَعَمْ، مَثَلُهَا وَمَثَلُ مَنْ فِيهَا مِنَ النَّاسِ مِنْ عَدُوِّ الْمُسْلِمِينَ مَثَلُ طَائِرٍ لَهُ رَأْسٌ، وَلَهُ جَنَاحَانِ، وَلَهُ رِجْلانِ، فَإِنْ كُسِرَ أَحَدُ الْجَنَاحَيْنِ نَهَضَتِ الرِّجْلانِ وَالرَّأْسُ، وَإِنْ شُدِخَ الرَّأْسُ، ذَهَبَتِ الرِّجْلانِ وَالْجَنَاحَانِ وَالرَّأْسُ، فَالرَّأْسُ كِسْرَى، وَالْجَنَاحُ قَيْصَرُ، وَالْجَنَاحُ الآخَرُ فَارِسُ، فَمُرِ الْمُسْلِمِينَ، فَلْيَنْفِرُوا إلى كِسْرَى. وَقَالَ بَكْرٌ وَزِيَادٌ جَمِيعًا: عَنْ جُبَيْرِ بْنِ حَيَّةَ قَالَ: فَنَدَبَنَا عُمَرُ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْنَا النُّعْمَانَ بْنَ مُقَرِّنٍ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِأَرْضِ الْعَدُوِّ، وَخَرَجَ عَلَيْنَا عَامِلُ كِسْرَى في أَرْبَعِينَ أَلْفٍ، فَقَامَ تَرْجُمَانٌ لَهُ فَقَالَ: لِيُكَلِّمْنِي رَجُلٌ مِنْكُمْ، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: سَلْ عَمَّا شِئْتَ، فقَالَ: مَا أَنْتُمْ؟ قَالَ: نَحْنُ النَّاسُ مِنَ الْعَرَبِ، كُنَّا في شَقَاءٍ شَدِيدٍ وَبَلاءٍ شَدِيدٍ نَمَصُّ الْجِلْدَ وَالنَّوَى مِنَ الْجُوعِ، وَنَلْبَسُ الْوَبَرَ وَالشَّعَرَ، وَنَعْبُدُ الشَّجَرَ وَالْحَجَرَ، فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الأرَضِينَ، إِلَيْنَا نَبِيًّا مِنْ أَنْفُسِنَا، نَعْرِفُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ، فَأَمَرَنَا نَبِيُّنَا ورَسُولُ رَبِّنَا صلعم أَنْ نُقَاتِلَكُمْ حَتَّى تَعْبُدُوا اللهَ وَحْدَهُ أَوْ تُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ، وَأَخْبَرَنَا نَبِيُّنَا صلعم عَنْ رِسَالَةِ رَبِّنَا أَنَّهُ مَنْ قُتِلَ مِنَّا صَارَ إلى الْجَنَّةِ وَنَعِيمٍ، لَمْ يَرَ مِثْلَهُ، وَمَنْ بَقِيَ مِنَّا مَلَكَ رِقَابَكُمْ، فَقَالَ النُّعْمَانُ: رُبَّمَا أَشْهَدَكَ اللهُ مِثْلَهَا مَعَ النَّبيِّ صلعم فَلَمْ يُنَدِّمْكَ، ولا يُحَزِّنْكَ، وَلَكِنِّي شَهِدْتُ الْقِتَالَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلعم كَانَ إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ في أَوَّلِ النَّهَارِ انْتَظَرَ حَتَّى تَهُبَّ الأرْياحُ، وَتَحْضُرَ الصَّلَوَاتُ. [خ¦3159] [خ¦3160]
          اختلف العلماء، / فيمن تؤخذ منه الجزية، فروى ابن القاسم عن مالكٍ أنَّ الجزية تؤخذ من أهل الكتاب، ومن المجوس وعبدة الأوثان، وكلِّ المشركين غير المرتدِّين، وقريشٍ.
          وفي «مختصر ابن أبي زيدٍ»: وتقاتل جميع الأمم حتَّى يسلموا أو يؤدُّوا الجزية.
          وحكى الطَّحاويُّ عن أبي حنيفة وأصحابه: أنَّ الجزية تقبل من أهل الكتاب، ومن سائر كفَّار العجم، ولا يقبل من مشركي العرب إلَّا الإسلام أو السَّيف.
          وقال الشَّافعيُّ: لا تقبل الجزية إلَّا من أهل الكتاب عربًا كانوا أو عجمًا، وزعم أنَّ المجوس كانوا أهل كتابٍ فلذلك تؤخذ منهم الجزية، وروي ذلك عن عليِّ بن أبي طالبٍ.
          وقال الطَّحاويُّ: في حديث عَمْرو بن عوفٍ أنَّ رسول الله صلعم بعث أبا عبيدة بن الجرَّاح إلى البحرين يأتي بجزيتها، أنَّ أهل البحرين كانوا مجوسًا من الفرس، ولم يكونوا من العرب، ولذلك قبل منهم الجزية، وأقرَّهم على مجوسيَّتهم. واحتجَّ الشَّافعيُّ بقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ} إلى قوله: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}[التوبة:29].
          قال: فدلَّ هذا الخطاب من لم يؤت الكتاب ليس بمنزلتهم بدليل قوله ◙: ((أمرت أن أقاتل النَّاس حتَّى يقولوا: لا إله إلا الله)) ولا يجوز أن يكون أهل الكتاب داخلين تحت هذه الجملة؛ لأنَّهم يقولون: لا إله إلا الله لإخباره صلعم أنَّ هذه الكلمة يحقن بها الدَّم والمال، فدلَّ أنَّ بغيرها لا يحقن الدَّم.
          وحجَّة مالكٍ حديث عبد الرَّحمن بن عوفٍ: ((أنَّ النَّبيَّ صلعم أخذ الجزية من مجوس هجر)) وقال في المجوس: ((سنُّوا بهم سنَّة أهل الكتاب في أخذ الجزية منهم)) وأيضًا فإنَّ النَّبيَّ صلعم كان يبعث أمراء السَّرايا فيقول لهم: ((إذا لقيتم العدوَّ فادعوهم إلى الإسلام، فإن أجابوا وإلَّا فالجزية، فإن أعطوا وإلَّا فقاتلوهم)) ولم ينصَّ على مشركٍ دون مشركٍ، بل عمَّ جميع المشركين؛ لأنَّ الكفر يجمعهم، ولمَّا جاز أن يسترقَّهم جاز أن يأخذ منهم الجزية، عكسه المرتدُّ لمَّا لم يجز أن يسترقَّه لم يجز أخذ الجزية منه.
          وليس فيما احتجَّ به الشَّافعيُّ من قوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ}[التوبة:29]دليلٌ على أنَّ الجزية لا يجوز أخذها من غير أهل الكتاب؛ لأنَّ الله تعالى لم ينه أن تؤخذ الجزية من غيرهم، وللنَبيِّ صلعم أن يزيد في البيان، ويفرض ما ليس بموجودٍ في الكتاب، ألا ترى أنَّ الله حرَّم الأمَّهات ومن ذكر معهنَّ في الآية، وحرَّم النَّبيُّ صلعم أن تنكح المرأة على عمَّتها وخالتها، وليس ذلك بخلافٍ لكتاب الله؛ فكذلك أخذ الجزية من جميع المجوس هو ثابتٌ بالسُّنة الثَّابتة، وهذا ينتظم الرَّدُّ على أبي حنيفة في قوله أنَّ مجوس العرب لا يجوز أخذ الجزية منهم، ويؤخذ من سائر المجوس غيرهم؛ لإطلاقه صلعم أخذ الجزية من جميع المجوس بقوله: ((سنُّوا بهم سنَّة أهل الكتاب)) ومن ادَّعى الخصوص في هذا وأنَّ المراد بعضهم فعليه الدَّليل.
          وأمَّا قول الشَافعيِّ: أنَّ المجوس كانوا أهل كتابٍ فرفع فهو غير صحيحٍ؛ لأنَّه لو كان كذلك لكان لنا أن نأكل ذبائحهم، وننكح نساءهم، وهذا لا يقوله أحدٌ.
          وقوله: (سُنُّوا بِهِم سُنَّةَ أَهلِ الكِتابِ) يدلُّ أنَّه لا كتاب لهم، وأيضًا فإنَّه لو كانوا أهل كتابٍ فرفع كتابهم لوجب أن يصيروا بمنزلة من لا كتاب له؛ لأنَّ الشَّيء إذا كان لمعنًى فارتفع المعنى ارتفع الحكم. هذا قول ابن القصَّار.
          واختلف العلماء في مقدار الجزية، فقال مالكٌ: أكثر الجزية أربعة دنانير على أهل الذَّهب، وعلى أهل الوَرِق أربعون درهمًا، ولا حدَّ لأقلِّها، وأخذ في ذلك مالكٌ ما رواه عن نافعٍ، عن أسلم أنَّ عُمَر بن الخطَّاب ضرب الجزية على أهل الذَّهب أربعة دنانير، وأهل الورق أربعين.
          وقال الكوفيُّون: يؤخذ من الغنيِّ: ثمانيةٌ وأربعون درهمًا، ومن الوسط أربعةٌ وعشرون، ومن الفقير اثنا عشر درهمًا، وبه قال أحمد بن حنبلٍ، وأخذوا في ذلك بما رواه إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مُضَرِّب، عن عمر أنَّه بعث عثمان بن حنيفٍ، فوضع الجزية على أهل السَّواد ثمانيةً وأربعين، وأربعةً وعشرين، واثني عشر. /
          قال أحمد بن حنبلٍ: ويزاد فيه وينقص على قدر طاقتهم، على قدر ما يرى الإمام.
          وقال الشَّافعيُّ: الجزية دينارٌ على الغنيِّ والفقير، واحتجَّ أصحابه بما رواه أبو وائلٍ عن مسروقٍ، عن معاذٍ أن الرَّسول صلعم قال له حين بعثه إلى اليمن: ((خذ من كلِّ حالمٍ دينارًا، وعد له معافري)) وهو ثياب اليمن. وقال الثَّوريُّ: قد اختلفت الرِّوايات في هذا عن عُمَر بن الخطَّاب، فللوالي أن يأخذ بأيِّها شاء، إذا كانوا أهل ذمَّة، وأمَّا أهل الصلح فما صولحوا عليه لا غير، وما حكاه البخاري عن مجاهد أنَّه جعل على أهل الشَّام أربعة دنانير، وعلى أهل اليمن دينارًا من أجل اليسار فهو قولٌ حسنٌ.
          وقال عبد الوهَّاب بن نصرٍ في أمر النَّبيِّ صلعم أن يأخذ من كلِّ حالمٍ دينارًا، يحتمل أن يكونوا لم يقدروا على أكثر منه.
          وقد روي عن مالكٍ أنَّه لا يزاد على الأربعين درهمًا، ولا بأس بالنُّقصان منها إذا لم يطق.
          قال مالكٌ: وأرى أن يُنفَق من بيت المال على كلِّ من احتاج من أهل الذِّمَّة إن لم تكن لهم حرفةٌ ولا قوَّة على نفقة نفسه، ويُنفَق على يتاماهم حتَّى يبلغوا. قال ابن حبيبٍ: وحدَّثني مُطَرِّفٌ، عن مالكٍ قال: بلغني أن عُمَر بن الخطَّاب كان ينفق على رجلٍ من أهل الذِّمَّة حين كبر وضعف عن العمل والخراج.
          قال المُهَلَّب: وأمَّا قول عمر: (فرِّقوا بَينَ كُلِّ ذِي مَحرَمٍ مِنَ المَجُوسِ) فيحتمل وجهين: أحدهما: أنَّ الله لم يأمر بأخذ الجزية إلَّا من أهل الكتاب، وأهل الكتاب لا ينكحون ذوات المحارم، فإذا استعمل فيهم قوله صلعم: (سُنُّوا بِهِم سُنَّةَ أَهلِ الكِتَابِ) احتمل ألَّا يقبل منهم الجزية إلَّا أن يسنَّ بهم سنَّة أهل الكتاب في مناكحتهم أيضًا، والوجه الآخر: أن يكون عمر غلب على المجوس عنوةً ثمَّ أبقاهم في أموالهم عبيدًا يعملون فيها، والأرض للمسلمين، ثمَّ رأى أن يفرِّق بين ذوات المحارم من عبيده الذين استبقاهم على حكمه واستبقاهم باجتهاده، وإن كان منعقدًا في أصل استحيائهم واستبقائهم، ويكون اجتهاده في تفريقه بين ذوات محارمهم مستنبطًا من قوله صلعم: (سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهلِ الكِتَابِ) أي: ما كان أهل الكتاب يحملون عليه في حرمهم ومناكحتهم، فاحملوا عليه المجوس، والله أعلم أيَّ الوجهين أراد عمر.
          وفيه: أنَّه قد يغيب عن العالم المنوَّر(3) بعض العلم.
          وفيه: قبول خبر الواحد والعمل به.
          وفيه: أن طلب العطاء من الإمام لا غضاضة فيه على طالبه؛ لقولهم: (أَجَل ياَ رَسُولَ اللهِ).
          وفيه: التَّبشير بالإسهام لهم بقوله: (أَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا) ومعنى ذلك: أي(4) أملوا أكثر ما تطلبون من العطاء؛ لأنَّهم لم يعرفوا مقدار ما قدم به أبو عبيدة فسرَّهم بأكثر ممَّا يظنون.
          وفيه: علامة النُّبوَّة؛ لأنَّه أخبرهم بما يخشى عليهم فيما يفتح عليهم من الدُّنيا.
          وفيه: أنَّ المنافسة في الاستكثار من المال من سبل الهلاك في الدُّنيا.
          وقوله في حديث جبير بن حيَّة: أفناء الأنصار فهم طوائف منهم لم يكونوا من فخذٍ واحدٍ.
          وأمَّا مشاورة عمر الهُرْمُزَان فبعد أن أسلم، وكان رجلًا بصيرًا بالحرب له دربة ورأى في المملكة وتدبيرها؛ فلذلك شاوره عمر.
          وفي هذا من الفقه: أنَّ المشاورة سنَّةٌ لا يستغنى عنها أحدٌ، ولو استغنى عنها لكان النَّبيُّ صلعم أغنى النَّاس عنها؛ لأنَّ جبريل كان يأتيه بصواب الرَّأي من السَّماء، ومع ذلك فإنَّ الله تعالى قال: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}[آل عِمْرَان:159]ولو لم يكن في المشاورة إلَّا استئلاف النُّفوس، وإظهار المفاوضة والثِقة بالمستشار لعلمه أن يبدو من الرَّأي ما لم يكن ظهر. وأمَّا العزيمة والعمل فإلى الإمام لا يشركه فيه أحدٌ؛ لقوله تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ على اللهِ}[آل عِمْرَان:159]فجعل العزيمة إليه، وجعله مشاركًا في الرَّأي لغيره.
          وفي هذا من الفقه: جواز مشاورة غير الوزير إذا كان ممَّن يظنُّ عنده الرَّأي والمعرفة.
          وفيه: ضرب الأمثال. وفيه: أنَّ الرَّأي في الحرب القصد إلى أعظم أهل الخلاف شوكةً، كما أشار الهُرْمُزان؛ لأنَّه إذا استؤصل الأقوى سلم الأضعف. /
          وفيه: كلام الوزير دون رأى الأمير، كما كلَّم عمر يوم حنينٍ لأبي سفيان، وكما كلَّم أبو بكرٍ الصِّدِّيق في قصَّة سلاح قتل أبي قَتادة.
          وقوله: (كُنَّا فِي شَقَاءٍ شَدِيدٍ) ففي ذلك وصف أنفسهم بالصَّبر والثَّبات على مضض العيش.
          وقوله: (نَعرِفُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ) فإنَّه أراد شرفه ونسبه؛ لأنَّ الأنبياء لا تبعث إلَّا من أشراف قومهم، فوصف شرف الطَّرفين من الأب والأم.
          وقول النُّعمان للمغيرة: (رُبَّما أَشهَدَكَ اللهُ مُثلَهَا) يريد ربَّما شهدت مع النَّبيِّ صلعم فيما سلف مثل هذه الأحوال الشَّديدة، وشهدت معه القتال، فلم يُنَدِّمك ما لقيت معه من الشِّدَّة، ولم يحزِّنك لو قفلت معه؛ لعلمك بما تصير إليه من النَّعيم، وثواب الشَّهادة.
          وقوله: (وَلَكِنِّي شَهِدْتُ القِتَالَ مَعَ رَسُولِ الله صلعم كَثِيرًا) فهذا ابتداء كلامٍ، واستئناف قصَّةٍ أخرى، أعلمهم أنَّ الرَّسول صلعم كان إذا لم يقاتل أوَّل النَّهار ترك حتَّى تهبَّ الرِّياح، يعني: رياح النَّصر، وتحضر أوقات الصَّلوات، وقد بيَّن هذا المعنى حديث حمَّاد بن سلمة عن النُّعمان بن مقرِّن قال: ((كان النَّبيُّ صلعم إذا لم يقاتل أوَّل النَّهار انتظر حتَّى تزول الشَّمس، وتهبَّ رياح النَصر)) وقد تقدَّم هذا الحديث وإسناده في الجزء الأوَّل من الجهاد في باب: كان النَّبيُّ صلعم إذا لم يقاتل أوَّل النَّهار أخَّر القتال حتَّى تزول الشَّمس، [خ¦2965] وأيضًا فإنَّ أفضل الأوقات أوقات الصَّلوات، وفيها الأذان وقد جاء في الحديث ((أنَّ الدُّعاء بين الأذان والإقامة لا يُردُّ)).


[1] في (ص): ((جعل)) والمثبت من المطبوع.
[2] قوله: ((قلت)) زيادة من المطبوع.
[3] قوله: ((المنور)) كذا في (ص) وفي التوضيح: ((المبرز)) ولعله أولى.
[4] في (ص): ((أو)) والمثبت من المطبوع.