الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب الطعام عند القدوم

          ░199▒ (بَابُ الطَّعَامِ): أي: مشروعيَّةِ عملِه لأجلِ المسافرِ (عِنْدَ القُدُومِ): أي: قدومِه من السفرِ، وقيَّدَه الشمسُ الرمليُّ في ((شرحِ المنهاجِ)) بالسَّفرِ الطويلِ، ويقالُ لهذا الطعامِ: النَّقِيعةُ _بفتحِ النونِ وكسر القاف_، قيل: مشتقٌّ من: النَّقْعِ _بسكونِ القاف_؛ وهو: الغبارُ؛ لأنَّ المسافرَ يأتي وعليه غُبارُ السفرِ، وقيل: النَّقيعةُ من اللبنِ إذا بردَ، وقيل غيرُ ذلك، كذا في ((الفتح)).
          وقال في ((المصباح)): النَّقيعةُ: طعامٌ يُتَّخذُ للقادمِ من السَّفرِ، وقد أُطلقَتِ النَّقيعةُ أيضاً على ما يُصنعُ عند الإملاكِ، ونقَعَ يَنقَع _بفتحتين_ نُقوعاً، وأنقَعَ _بالألف_: صَنعَ النَّقيعةَ، انتهى.
          وهذا أحدُ الولائمِ، وهي اسمٌ لكلِّ طعامٍ يُتَّخذُ لحادثِ سرورٍ أو غيرِه، ونظمَها بعضُهم بقولِه:
وليمةُ عُرسٍ ثم خُرسُ وِلادةٍ                     عَقيقةُ مَولودٍ وكِيرةُ ذي بنا
وضيمةُ مَوتٍ ثم إعذارُ خاتنٍ                     نَقِيعةُ سَفْرٍ والمؤدِّبُ للثَّنا
          (وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ): أي: ابنِ الخطَّابِ ☻ (يُفطِّرُ): بتشديدِ الطاءِ المهملةِ المكسورةِ وضمِّ التحتيَّة أوله؛ أي: إذا قدِمَ من السفرِ أياماً. قال الدَّمامينيُّ في ((المصابيحِ)): ((ويُفْطِرُ)) بضمِّ الياء وإسكانِ الفاء، من الإفطارِ، واللامُ في قولِه: (لِمَنْ يَغْشَاهُ): للتَّعليلِ؛ أي: يُفطِرُ لأجلِ مَن يغشاه، و((يَغْشاهُ)) بفتحِ التحتية أوله وسكونِ الغين المعجمةِ؛ أي: يأتيه للسلامِ عليه وتهنئتِه بالقُدومِ؛ لأنه كان لا يصومُ في السفرِ لا فَرْضاً ولا نَفْلاً، ويُكثرُ من صومِ التطوُّعِ في الحضَرِ، إلا أولَ قدومِه من السفرِ، فإنه يُفطرُ لأنَّ الناسَ تغشاه للسلامِ عليه.
          وظاهرُه أنَّ المسافرَ إذا قدِمَ من سفرِه، يُسنُّ له عملُ الطعامِ، بل حديثُ جابرٍ بعدَه صريحٌ في ذلك، لكن في كلامِ بعضِهم ما يقتضي أنَّ غيرَ المسافرِ يصنَعُها له، وقد يُجابُ بأنَّ فِعلَ كلٍّ منهما يحصِّلُ السُّنةَ، وإن كان الأَولى لغيرِه ذلك، أو يقالُ: يفعَلُها الغيرُ أولَ قدومِه، ويفعَلُها هو بعد ذلك، فيتأمل.
          تنبيه: ((يُفطِرُ)) روايةُ الأكثرِ، ووقعَ لأبي ذرٍّ عن الكُشميهنيِّ: <يصنَعُ> بدَلَه.
          قال في ((الفتح)): والمعنى صحيحٌ، لكن الأولُ أصوبُ، فقد وصَلَه إسماعيلُ القاضِي في كتابِ ((أحكام القرآن)) من طريقِ أيوبَ عن نافعٍ، قال: كان ابنُ عمرَ إذا كان مسافراً لم يصُمْ، فإذا قدِمَ أفطَرَ أياماً لغاشيتِه، ثم يصومُ.
          قال ابنُ بطَّالٍ: فيه إطعامُ الإمامِ والرئيسِ أصحابَه عند القدومِ من السفرِ، وهو مستحبٌّ عند السلَفِ، ويُسمَّى: النَّقيعةَ _بنون وقاف_، بوزن: عظيمةٍ، ونُقلَ عن المهلَّبِ أنَّ ابنَ عمرَ كان إذا قدِمَ من سفَرٍ أطعَمَ مَن يأتيه ويُفطِرُ معهم، ويترُكُ قضاءَ رمَضانَ؛ لأنه كان لا يصومُ في السَّفرِ، فإذا انتهى الطعامُ ابتدأَ قضاءَ رمَضانَ، قال: وقد جاءَ هذا مفسَّراً في كتابِ ((الأحكامِ)) لإسماعيلَ القاضِي.
          وتعقَّبَه ابنُ بطَّالٍ بأنَّ الأثرَ الذي أخرجَه إسماعيلُ ليس فيه ما ادَّعاه المهلَّبُ؛ يعني: من التَّقييدِ برمَضانَ، وإن كان يتناوَلُه بعُمومِه، وإنَّما حملَ المهلَّبَ على ذلك ما جاءَ عن ابنِ عمرَ أنه كان يقولُ فيمَنْ نوى الصومَ، فاحتاجَ أن يُقيِّدَه بقضاءِ رمَضانَ، والحقُّ أنه لا يَحتاجُ إلى ذلك إذا حُملَ على الصَّورةِ التي ابتدأتُ بها؛ وهو أنه لا ينوِي الصومَ حينئذٍ، / بل يقصدُ الفطرَ لأجلِ ما ذُكرَ، ثم يستأنفُ الصَّومَ تطوُّعاً كان أو قضاءً.