الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها

          ░░51▒▒ (بسم الله الرحمن الرحيم، كتابُ الهبةِ وفضلِها والتحريضِ عليها) قال في ((الفتح)): كذا للجميعِ إلا الكُشميهنيِّ وابنِ شبُّويه، فقالا: <فيها> بدَلَ: ((عليها)) وإلا النَّسفيَّ؛ فإنَّه أخَّر البسملةَ، ووقعَ في بعضِ النُّسخِ زيادةُ: <بابٌ في الهِبةِ وفضلِها> بين قولِه: ((كتابُ الهبةِ وفضلِها)) وبين قولِه: ((والتحريضِ عليها))، ووقعَ في بعضٍ آخرَ هكذا لكنْ بإسقاطِ البسملةِ، والنُّسَخُ مختلفةٌ، و((الهبة)) بكسر الهاء وتخفيف الموحدة وبهاء التأنيث؛ نحوُ عِدَةٍ، وهي عِوَضٌ عن فائِها؛ إذ أصلُه: وَهَبَ.
          قال في ((المصباح)): وهَبتُ مالاً لزيدٍ، أهَبُه له، هِبةً؛ أعطَيتُه بلا عِوَضٍ، ومَوهِباً ومَوهِبةً أيضاً، وكُسِرَتِ الهاءُ منهما لجريانِهما على الفعل، مثلُ: الموعِدِ والموعِدَةِ، ويتعدَّى إلى الأول باللَّام، وفي التنزيل: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} [الشورى:49].
          قال ابنُ القُوطِيَّةِ والسَّرَقُسْطيُّ والمطرِّزيُّ وجماعةٌ: ولا يتعدَّى بنفسِهِ إلى الأول، فلا يُقال: وهبتُكَ مالاً، والفقهاءُ يقولونه، وقد يُجعَلُ له وجهٌ؛ وهو أن يتضمَّنَ وهَبَ معنى: أعطى، فيتعدَّى بنفسِه إلى مفعولَين، لكنَّه لم يُسمَعْ في كلامٍ فصيح، انتهى.
          وقال ابنُ الملقِّن في ((التوضيح)): أصلُ الهِبةِ من هبوبِ الريح؛ أي: مرورِه، وحقيقتُها: التملُّكُ بلا عِوضٍ تبرُّعاً في الحياة، انتهى.
          واعترضَه العَينيُّ فقال: هذا غلَطٌ صريحٌ، بل الهِبةُ مصدَرٌ مِن: وَهَبَ يَهِبُ، وأصلُها: وَهْب _بفتح الواو وسكون الهاء_ فلما حُذفتِ الواوُ تَبعاً لفعلِه عوَّضَتْ عنها الهاءُ، انتهى.
          وأقول: يجوزُ أن يكونَ المرادُ بالهِبةِ هنا غيرُ المصدَرِ كما هو ظاهرٌ، وهذه يصحُّ أخذُها من هُبوبِ الريح؛ لأنَّها تمُرُّ من الواهب إلى الموهوب له، على أنَّا لو أرَدْنا المصدَرَ لم يمتنِعْ ما قاله؛ لأنَّ هذا أخذٌ وبابُه أوسَعُ، كما قالوا في البيعِ: مأخوذٌ من الباعِ وغيرِ ذلك، فلا غلَطَ فضْلاً عن كونِهِ صريحاً، فتأمَّل.
          ثم قال العينيُّ: ومعناها في اللغة: إيصالُ الشَّيءِ للغيرِ بما ينفعُه، سواءٌ كان مالاً أو غيرَ مالٍ، يقال: وهبتُ له مالاً، ووهبَ اللهُ فلاناً ولداً صالحاً، ويُقال: وهبَه مالاً، ولا يُقال: وهَبَ منه، ويُسمَّى الموهوبُ هِبةً ومَوهِبةً، انتهى.
          وقال القسطلانيُّ: يُقال: وهَبَه له _كوعَدَه_ وَهْباً ووهَباً وهِبةً، ولا تقُلْ: وهَبَكَه، وحكاه أبو عَمرٍو عن أعرابيٍّ، والموهِبةُ: العَطيَّةُ، وهي في الشرع: تمليكٌ بلا عِوَضٍ في الحياة، وأُورِدَ عليه ما لو أهدى لغنيٍّ من لحمِ أُضحيةٍ أو هَدْيٍ أو عقيقةٍ، فإنَّه هبةٌ لا تمليكَ فيه، وما لو وقَفَ شيئاً، فإنه تمليكٌ بلا عوَضٍ، وليس بهبةٍ.
          وأُجيبَ عن الأوَّلِ بمَنعِ أنَّه لا تمليكَ فيه: بل فيه التَّمليكُ، لكنه يُمنَعُ من التصرُّفِ فيه بالبيعِ ونحوِهِ كما عُلمَ من باب الأُضْحيةِ، وعن الثاني بأنَّه تمليكُ منفعةٍ، وإطلاقُهم التَّمليكَ إنَّما يريدون به الأعيانَ، والهِبةُ شاملةٌ للهديةِ والصَّدقة، فأما الهديَّة فهي تمليكُ ما يُبعَثُ غالباً بلا عِوَضٍ إلى المُهدَى إليه إكراماً له، فلا رجوعَ فيها / إذا كانتْ لأجنبيٍّ، فإن كانَتْ من الأبِ لولَدِه؛ يعني: من الأصلِ إلى الفرعِ، فله الرُّجوعُ فيها بشرطِ بقاءِ الموهوبِ في سَلطَنةِ المتَّهِبِ.
          ومن الهديَّةِ الهديُ المنقولُ إلى الحرَمِ، ولا يقعُ اسمُ الهديَّةِ على العَقارِ؛ لامتِناعِ نقلِه، فلا يُقال: أهدَى إليه داراً ولا أرضاً، بل على المنقولِ كالثِّيابِ والعَبيد.
          واستُشكِلَ ذلك بأنَّهم صرَّحوا في بابِ النَّذرِ بما يُخالِفُه حيثُ قالوا: لو قال: لله عليَّ أن أُهديَ هذا البيتَ أو الأرضَ أو نحوَهما مما لا يُنقَلُ؛ جازَ، وباعَه ونقَلَ ثمَنَه.
          وأُجيبَ بأنَّ الهديَ وإن كانَ من الهديَّةِ، لكنَّهم توسَّعوا فيه بتخصيصِهِ بالإهداءِ إلى فقراءِ الحرَمِ، وبتعميمِهِ في المنقولِ وغيرِهِ، ولهذا لو نذَرَ الهَدْيَ انصرَفَ إلى الحرَمِ، ولم يُحمَلْ على الهديةِ إلى فقيرٍ. وأمَّا الصَّدقةُ فهي تمليكُ ما يُعطى بلا عِوَضٍ للمُحتاجِ لثوابِ الآخرة، وأما الهِبةُ فهي تمليكٌ بلا عِوَضٍ خالٍ ممَّا ذُكرَ في الصَّدقةِ والهديَّةِ بإيجابٍ وقبولٍ لفظاً، بأن يقولَ نحوَ: وَهبْتُ لك هذا، فيقولَ: قَبلْتُ، ولا يُشترَطانِ في الهديةِ على الصَّحيحِ، بل يكفِي البَعثُ من هذا والقَبضُ من ذاك، وكذا لا يُشترَطانِ في الصَّدقةِ، وقد تُطلَقُ الهِبةُ على ما يشمَلُ الثلاثةَ كما يأتي، وعليه فكلٌّ من الصَّدقةِ والهديةِ هِبةٌ، ولا عَكسَ، فلو حلَفَ لا يَهِبُ له، فتصدَّقَ عليه أو أهدَى له، حَنِثَ.
          وقال في ((الفتح)): والهبةُ تُطلَقُ بالمعنى الأعمِّ على أنواعِ الإبراء؛ وهو هِبةُ الدَّينِ ممَّن هو عليه، والصَّدقةِ؛ وهي هِبةُ ما يتمحَّضُ به طلَبُ ثوابِ الآخرةِ، والهديَّةِ؛ وهي ما يُكرَمُ به الموهوبُ له، ومَنْ خصَّها بالحياةِ أخرَجَ الوصيَّةَ، وهي أيضاً تكونُ بالأنواعِ الثلاثةِ، وتُطلَقُ الهِبةُ بالمعنى الأخصِّ على ما لا يُقصَدُ له بدَلٌ، وعليه ينطبِقُ قولُ مَنْ عرَّفَ الهِبةَ بأنَّها: تَمليكٌ بلا عِوَضٍ، وصَنيعُ المصنِّفِ محمولٌ على المعنى الأعمِّ، انتهى؛ أي: لأنَّه أدخلَ فيها الهدايا.
          واعترضَه العَينيُّ، فقال: تقسيمُ الهِبةِ إلى الأنواع المذكورة ليس بالنظر إلى معناها الشرعيِّ، وإنَّما هو بالنظرِ إلى معناها اللُّغويِّ، انتهى.
          وفيه أن فقهاءَنا جعلوا ذلك تقسيماً للهِبةِ بالمعنى الشرعيِّ، فحصَره فيما ذكرَه غيرُ مسلمٍ، فتدبَّرْ.