الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

[أبواب سجود القرآن]

          ░░ 17▒▒ أَبْوَابُ سُجُودِ القُرْآنِ
          ░1▒ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ) سقطت البسملة لأبي ذرٍّ (أَبْوَابُ سُجودِ القُرْآنِ) كذا للمستملي ولغيره: <باب ما جاء في سجود القرآن وسنتها> بالتأنيث؛ أي: سجدة التِّلاوة لا سجدةُ القرآن، ورأيتُ في نسخة: الجمع بين هذه الرِّوايات كلها، وللأصيليِّ: <وسننه> بتذكير الضَّمير مع التاء؛ أي: سجود القرآن، ورأيت في نسخةٍ: <وسننها> بتأنيث الضمير بلا تاء، وفي أخرى: <كتاب سجود القرآن، باب: السجود> وإضافة السُّجود إلى القرآن صادقةٌ بسجود التِّلاوة، وسجدة الشُّكر، وهي الواقعةُ في (ص) عند الشافعيَّة، وسجود التِّلاوة من السُّنن المؤكدة عند الجمهور، ومنهم الشافعيَّة، لما صحَّ عن عمر من التَّصريح بعدم وجوبها على المنبر، ولم ينكر عليه أحدٌ، فصار بمنزلة الإجماع / السُّكوتيِّ؛ ولأنَّه صلعم تركها في سجدة: {والنَّجْم}، كما رواه الشَّيخان.
          وقال شيخُ الإسلام: والمراد من التَّرجمة: بيان أنَّ السجود سنةٌ.
          وقال الكرمانيُّ: اعلم: أنَّ فعل الرَّسول إن كان مجرَّداً عن القرائن المعينةِ للوجُوب ونحوه، يدلُّ على الندب على الصَّحيح عند الشافعيَّة، فلهذا قالوا: إنَّ سجدة التِّلاوة مندوبةٌ، واجبةٌ عند الحنفيَّة، واختلفوا في عددها، فقال الشافعيُّ: أربعة عشر، منها: سجدتان في الحج، وثلاثةٌ في المفصل، ولا سجدةَ في (ص) للتِّلاوة، بل هي سجدة شكرٍ، ومالك: أحد عشرَ، أسقط سجدات المفصل، وقال: لا سجدةَ فيه، وأبو حنيفة: أربعةَ عشر، أثبت (ص) للتِّلاوة، والأولى من الحج.
          وقال ابن سريجٍ: هي خمس عشرة، أثبت الجميع، انتهى.
          وسيأتي بيانُ الخلاف في وجوبها، وغيره في باب من رأى أنَّ الله تعالى لم يوجبِ السُّجود.
          تنبيه: سجداتُ التِّلاوة قد أجمع العلماء على طلبها لخبر مسلمٍ أنَّه صلعم قال: ((إذا قرأ ابنُ آدم السَّجدة فسجد اعتزلَ الشَّيطانُ يبكِي يقولُ: يا ويلتاه أمرَ ابن آدم بالسُّجودِ فسجَدَ فلهُ الجنَّةُ، وأُمِرتُ بالسُّجودِ فعصيتُ فليَ النارُ)).
          وقال في ((الفتح)): وقد أجمعَ العلماءُ على أنَّه يسجدُ في عشرةِ مواضع، وهي متواليةٌ إلَّا ثانية الحج و(ص)، وأضاف مالكٌ: (ص) فقط، والشافعيُّ في القديم: ثانية الحج فقط، وفي الجديد: هي، وما في المفصَّل، وهو قول عطاءٍ وعن أحمد: مثله في روايةٍ، وفي أخرى مشهورةٌ زيادة: (ص)، وهو قول اللَّيث وإسحاق وابن وهب وابن حبيب، وابن المنذرِ، وابن سريج، وعن أبي حنيفة: مثلهُ، لكنه نفى ثانية الحجِّ، وهو قول داود ووراء ذلك أقوالٌ، منها: عن عطاء الخراسانيِّ: الجميع إلَّا ثانية الحجِّ والانشقاق، وقيل: بإسقاطها، وإسقاطِ (ص) أيضاً، وقيل: الجميع مشروعٌ؛ ولكنَّ العزائم: الأعراف، و{سُبْحَان}، وثلاث المفصل، روي عن ابن مسعودٍ، وعن ابن عبَّاسٍ: {الم. تَنْزِيلُ}، و{حم. تنزيل}، والنَّجم، و{اقرأ}، وعن سعيد بن جبيرٍ: بإسقاط {اقرأ}، وعن عبيد بن عميرٍ مثله، لكن بإسقاط: {والنَّجْم}، وإثبات الأعراف، و{سُبحَانَ}، وعن عليٍّ: ما ورد الأمر فيه بالسُّجود عزيمةً، وقيل: يشرع السُّجود عند كلِّ لفظٍ وقع فيه الأمر بالسُّجود، أو الحثُّ عليه، أو الثَّناء على فاعله، أو سيق مساق المدح، وهذا يبلغُ عدداً كثيراً.
          ونقل العينيُّ: أنَّ جملة الأقوال اثنا عشر قولاً.
          وقال ابن حجر المكيُّ في ((التحفة)): إن قيل: لم اختصَّت هذه الأربع عشرة بالسُّجود عندها مع ذكر السُّجودِ، والأمر به له صلعم في آياتٍ أُخَر، كآخرِ الحج، و{هَلْ أَتَى}؟ قلنا: لأنَّ تلك فيها مدح السَّاجدين صريحاً، وذمُّ غيرهم تلويحاً، أو عكسه، فشرع لنا السُّجود حينئذٍ لغنم المدح تارةً، والسَّلامة من الذَّمِّ أخرى، وأمَّا ما عداها فليس فيه ذلك، بل نحو أمره صلعم مجرَّداً عن غيره، وهذا لا دخلَ لنا فيه، فلم يطلُبْ منا السُّجود عنده، فتأمَّله سرًّا وفهماً يتَّضح لك، وأما: {يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران:113] فهو ليس مما نحن فيه؛ لأنَّه مجرد ذكر فضيلةٍ لمن آمن من أهل الكتاب، انتهى.
          وقال قبلهُ: الأصحُّ: أنَّ آخر آيتها في النَّحل: {يُؤمَرُوْنَ} [النحل:50]، وقيل: {يَسْتَكْبِرُونَ} [النحل:49]، وفي النمل: {العَظِيْمِ} [النمل:26] وقيل: {تُعْلِنُوْنَ} [النمل:25]، وانتصر له الأذرعيُّ، وردَّ قول ((المجموع)): أنَّه باطلٌ، وفي (ص): {وَأَنَابَ} [ص:24]، وقيل: {مَآب} [ص:25]، وفي فُصِّلت: {يَسْأَمُونَ} [فصلت:38]، وقيل: {تَعْبُدُوْنَ} [فصلت:37]، وفي الانشقاق {يَسْجُدُون} [الانشقاق:21]، وقيل: / آخرها، انتهى.
          ولم يتعرَّض للبقيَّةِ لعله لعدم خلاف في محالها، ولا بدَّ أن يسمع الآية بطرفيها، فلو سجدَ قبل تمامها، ولو بحرفٍ لم يصحَّ؛ لأنَّ وقتها لم يدخُلْ، واكتفَى الحنفيَّةُ بسماع أكثرها، نعم المقتدي لا يشترطُ في حقِّه سماعها؛ لأنَّ سجوده لمتابعة إمامه، وهي واجبةٌ عليه، والمشهورُ عند المالكيَّة _وهو القولُ القديم للشافعيِّ_ أنَّها أحد عشر، فلم يعدُّوا ثانية الحجِّ، ولا ثلاثة المفصل لحديث: ((لم يسجُدِ النبيُّ في شيءٍ من المفصل منذ تحول المدينة))، وتُعُقِّب: بأنَّه ضعيفٌ ونافٍ، وغيره صحيحٌ ومثبتٌ، ولمسلمٍ عن أبي هريرة: سجدنا مع النبيِّ في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}، و{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}، وإسلام أبي هريرة سنة سبعٍ من الهجرة.
          تنبيه: سجود التِّلاوة سجدة واحدة لا اثنتان كسجود السَّهو، ثمَّ إن كان في الصَّلاة فيسجُدُها ناوياً لها بقلبه لزوماً عند الرَّمليِّ في غير المأموم، وتبطلُ صلاته إن تلفَّظ بها، ولا تلزم نيَّتها عند ابن حجر، ويسنُّ أن يُكبِّر للهوي وللرَّفع منه، بلا رفع يديه، وأن يقول فيها: سجدَ وجهي الذي خلقه وصوره، وشقَّ سمعه وبصره، بحوله وقوَّته، فتبارك اللهُ أحسنُ الخالقين، وأن يسجدها خارج الصَّلاة فيشترطُ لها شروط الصَّلاة، ولا بدَّ فيها من تكبيرةِ الإحرام، وكذا السَّلام، وقيل: إنَّه سُنَّة، وصحَّحه العز، ويسنَّ أن يرفعَ يديه عند تكبيرةِ الإحرام ناوياً سجودَ التِّلاوة وجوباً، ويسنُّ أن يكبِّر للهَويِ للسُّجود، وكذا للرَّفع منه، بلا رفع يديه، وتفاصيل المسألة مفصَّلٌ في الفروع.