الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب من اغبرت قدماه في سبيل الله

          ░16▒ (باب) أي: هذا باب بيان فضْل (مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) فـ((من)) الموصُولة أو النَّكرة الموصُوفة / في محلِّ جر بالإضافة، ويجوزُ تنوين ((باب)) فـ((من)) الشَّرطية أو الموصُولة مبتدأ والخبر جملة الشَّرط أو جوابه أو هما أولاً خبر له، وأمَّا على الموصُولة فالخبرُ محذوفٌ، وجملة: اغبرَّت... إلخ صلتها، واغبرَّت _بتشديد الراء_ من باب الافعلال، مزيد غبِر _بكسر الموحدة_ أصابه الغبار.
          قال في ((المصباح)): أغْبَرَ الرجلُ بالألف أثار الغبَار، وقال في ((القاموس)): الغَبَرُ محركة التراب، وبهاءٍ الغُبار، كالغُبْرَة؛ بالضم، واغبَرَّ اليومُ اغْبِراراً: اشتدَّ غُبارهُ، وغبَّرهُ تغبِيراً: لطَّخه به، والغُبْر بالضم لونه وقد غَبَر واغبَرَّ، والأغبَرُ: الذئبُ، والغبرَاءُ الأرضُ.
          وفي سبيلِ الله متعلِّق بــ((اغبرت)) أي: في الجهاد، وذلك عند اقتحَامه في المعاركِ لقتال الكفَّار، وخصَّ القدمين لكونهمَا عمْدة في غالبِ الحركات، وإلا فالغبَار الذي يثورُ في المعركة حال المصَادمة يعم غالبَ الأعضَاء.
          (وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) ولأبي ذرٍّ: <╡> وهو مجرورٌ أو مرفوعُ ({مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ}) أي: مدينة رسولِ الله صلعم ({وَمَنْ حَوْلَهُمْ}) أي: حول أهلِ المدينة ({مِنَ الأَعْرَابِ}) بفتح الهمزة، جمع: عَرَب، كسبب وأسباب، والأعرابُ: سكان الباديةِ مطلقاً أو من العرب، وهم هنا مزينة وجُهينة وأشجع وأسلم وغفَار ({أَنْ يَتَخَلَّفُوا}) أي: أن يتأخَّروا ({عَنْ رَسُوْلِ اللَّهِ}) أي: عن حكمهِ؛ أي: إذا غزا، فـ((أن يتخلَّفوا)) في تأويلِ مصدرٍ مرفوعٍ بـ((كان)) إلى:
          ({إِنَّ اللَّهَ}) بكسر همزة {إن}؛ لحكايتهَا في الآية ({لاَ يُضِيعُ}) بضم أوله ({أَجْرَ المُحْسِنِينَ}) أي: ثواب من أحسنَ إلى عبادِهِ، هذه رواية أبي ذرٍّ ولغيرهِ: <{مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ} إلى قولهِ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}> وهذا خبرٌ في الظَّاهر ومعناه النَّهي.
          قال ابن بطَّال: مناسبةُ الآية للترجمةِ أنه سبحانه وتعالى قال في الآية: {وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ} [التوبة:120] وقال أيضاً: إلا كتَبَ لهم به عملٌ صالحٌ قال: ففسَّر صلعم العمل الصَّالح بأن النَّار لا تمس من عملِ بذلك، قال: والمرادُ بسبيل الله جميعَ طاعاتهِ، انتهى.
          وهو كما قال، إلَّا أن المتبادر عند الإطلاقِ من لفظِ سبيلِ الله الجهَاد، وقد أوردَهُ المصنِّف في فضلِ المشِي إلى الجمعةِ استعمَالاً للفظ في عمُومهِ، ولفظه هناك: ((حرَّمه الله على النار)).
          وقال ابن المنيِّر: مطابقةُ الآية من جهةِ أنَّ الله أثابهم بخطواتهم، وإنْ لم يباشِروا قتالاً، وكذلك دلَّ الحديث على أنَّ من اغبرَّتْ قدمه في سبيلِ الله حرَّمه الله على النارِ سواء باشرَ قتالاً أم لا.
          ومن تمام المناسبةِ أن الوطئَ يتضمَّن المشي المؤثِّر لتغبير القدمِ، ولا سيَّما في ذلك الزَّمان؛ أي: والمكان، انتهى فتأمَّل.
          وفي ((تفسير ابن كثير)): عاتَبَ اللهُ المتخلِّفين عن رسولِ الله صلعم في غزوةِ تبوك من أهلِ المدينةِ ومن حولها من أحياء العربِ، ورغبتِهم بأنفسِهِم من مواساته فيما حصلَ من المشقَّة فإنَّهم نقصُوا أنفسَهُم من الأجرِ؛ لأنَّهم {لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ} وهو العطشُ، {وَلَا نَصَبٌ} وهو التَّعبُ، {وَلَا مَخْمَصَةٌ} وهي المجاعةُ، {وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ} أي: لا ينزلونَ منزلاً يرهبُ عدوَّهُم ولا ينالونَ منه ظفَراً وغلبةً عليه إلَّا كتبَ لهم بهذهِ الأعمَالِ التي ليسَتْ داخلةً تحت قُدرتهم، وإنَّما هي ناشئةٌ عن أفعَالهم أعمَالاً صَالحة وثواباً جزيلاً {إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التوبة:120] كما قال تعالى: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} [الكهف:30] وقال ابن عبَّاس: كتبَ اللهُ لهم بكلِّ روعةٍ تنالهُم في سبيلِ الله سبعين ألف حسنةٍ.
          وقال قتادةُ: هذا خاصٌّ بالنبيِّ صلعم إذا غزا بنفسِهِ، / فليس لأحدٍ أن يتخلَّفَ عنه إلا بعذرٍ، فأمَّا غيرُه من الأئمَّة والولاةِ فمَن شاءَ أن يتخلَّفَ تخلَّفَ.
          وقال ابنُ زيد: كان هذا وأهلُ الإسلام قليلونَ، فلمَّا كثروا نسخَهَا الله ╡ وأباحَ التَّخلُّف لمن شاءَ فقال: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة:122].
          وقال النَّحاسُ: ذهبَ غيره إلى أنَّه ليس هنا ناسخٌ ولا منسوخٌ، ونتكلَّم على بقيَّة الآية التي أشارَ إليها البخاريُّ وهي قوله تعالى: {وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} [التوبة:12] قال البيضاويُّ: ولا يصُونوا أنفسَهُم عمَّا لم يصنْ نفسَه عنه، ويكابدوا معه ما يكابدُهُ من الأهوالِ.
          روي أنَّ أبا خيثمةَ بلغَ بستانه، وكانت له امرأةٌ حسناءُ ففرشَتْ له في الظلِّ، وبسطَتْ له الحصيرَ وقرَّبتْ إليه الرطبَ والماء الباردَ، فنظرَ فقال: ظلٌّ ظليلٌ، ورطبٌ يانِعٌ، وماءٌ باردٌ، وامرأةٌ حسناءُ، ورسول الله صلعم في الفيحِ والرَّيحِ، ما هذا بخيرٍ، فقام فرحلَ ناقتَهُ وأخذَ سيفَه ورمحَهُ ومرَّ كالريحِ، فمدَّ رسولُ الله صلعم طرفه إلى الطَّريقِ فإذا براكبٍ يزهاهُ السَّراب، فقال: كنْ أبا خيثمَةَ، فكانَ، ففرِحَ به الرَّسولُ صلعم واستغفرَ له.
          وفي {لا يرغبُون} يجوزُ النَّصب والجزم.
          وقوله: ذلك إشارةٌ إلى ما دلَّ عليه قوله من النَّهي أو وجوبِ المتابعةِ بأنَّهم؛ أي: بسبب أنهم {لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ}؛ أي: من العطشِ، {وَلَا نَصَبٌ} أي: تعبٌ، {وَلَا مَخْمَصَةٌ}؛ أي: مجاعةٌ في سبيل الله، {وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئاً}؛ أي: ولا يدوسُون مكاناً {يَغِيظُ الْكُفَّارَ}؛ أي: يغيظهُم وطؤهُ، {وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً}؛ أي: كالقتلِ والأسرِ والنَّهب إلا كتبَ لهم به عملٌ صَالح؛ أي: إلا استوجبُوا به الثوابَ، وذلك بما يوجب المتابعة {إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} أي: على إحسانهم، وهو تعليلٌ لكتب وتنبيهٌ على أنَّ الجهادَ إحسانٌ، أمَّا في حقِّ الكفَّار فلأنَّه سعي في تكميلهِم لإيمانهم بأقصَى ما يمكنُ، كضربِ المداوي المجنونَ، وأمَّا في حقِّ المؤمنين، فلأنَّه صيانة لهم عن سطوةِ الكفَّار واستيلائهم.