الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

[أبواب صدقة الفطر]

          ░(24م)▒
          ░70▒ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ): سقطت في بعض الأصول، ووقعت في بعض الأصول مؤخَّرة عن الباب (أَبْوابُ صَدَقَةِ الفِطْرِ، بَابُ فَرْضِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ): قال في ((الفتح)): كذا للمستملي، واقتصر الباقون على <باب> وما بعدهُ، ولأبي نعيم: ((كتاب)) بدل: ((باب)).
          وقال شيخُ الإسلام: سقط لفظ: <باب> في نسخة.
          وأضيفتْ الصدقةُ للفطر لكونها تجبُ بالفطر من رمضان، مع إدراك جزءٍ من رمضان، فلا تجبُ على من ماتَ قبل الغروب أو وُلِد بعده، بل لا بدَّ من إدراك الجزأين.
          وقال ابن قتيبة: المرادُ بصدقة الفطر: صدقةُ النُّفوس مأخوذةٌ من الفطرة التي هي أصل الخلقة، يعني: وجبتْ على الخلقة تزكيةً للنفس وتنميةً لعملها، فالأوَّلُ أظهر، ويؤيِّدهُ قولُه في بعض طرق الحديث كما سيأتي: زكاة الفطر من رمضان.
          ويقال لها: زكاة الفِطرة، بكسر الفاء وبتاء آخره، وقولُ / ابن الرفعة في ((الكفاية)): بضمها غريب، وتُطلق الفطرةُ على المخرَج أيضاً كما أُطلِقت على الخِلقة.
          قال النَّووي: هي لفظةٌ مولَّدة لا عربيَّةٌ ولا معربة، بل هي اصطلاحيَّةٌ للفقهاء فتكونُ حقيقةً شرعيَّةً على المختار كالصلاة. انتهى.
          قال العيني: ولو قيل: لفظةٌ إسلاميَّةٌ كان أولى؛ لأنَّها ما عُرِفت إلا في الإسلام، قال: ويؤيِّد هذا ما ذكرَ ابن العربي أنَّه اسمها على لسان صاحبِ الشرع. انتهى.
          وقال ابن حَجر في ((التحفة)): وأما ما وقع في ((القاموس)) من أنَّها عربيَّةٌ فغير صحيحٍ؛ لأنَّ ذلك المخرج يوم العيد لم يُعلَم إلا من الشارع فأهلُ اللغة يجهلونه، فكيف يُنسب إليهم؟ انتهى. فليتأمَّل.
          فلعلَّ صاحب ((القاموس)) أرادَ بعربيتها: ورودها في لسان العرب والشارع صلعم أفصحهم، ولا يلزمُ في كون الكلمة عربيَّة تقدمها على زمنه، فافهم.
          تنبيه: كما يقال لها: صدقةُ الفطر يقال لها أيضاً: زكاة الفطرة، وزكاة الفطر، وزكاة رمضان، وزكاة الصوم، وصدقةُ الرؤوس، وزكاةُ الأبدان، وصدقة الصوم، وصدقة رمضان، وكان فرضُها كرمضان في السنة الثانية من الهجرة، لكنها في شهرِ رمضان قبل العيد بيومين، وهي _كما قال وكيع_ لشهر رمضانَ كسجدة السهو للصلاة تجبرُ نقصَ الصوم كما يجبر السُّجودُ نقصَ الصلاة، ويؤيِّدهُ الخبر الصَّحيح: ((أنَّها طهرةٌ للصَّائمِ من اللَّغوِ والرفث)) وكذا الخبرُ الحسنُ لكنَّهُ غريبٌ: ((شهرُ رمضَانَ مُعلَّقٌ بين السَّماءِ والأرضِ لا يُرفَع إلا بزكاةِ الفطرِ)).
          (وَرَأَى أَبُو الْعَالِيَةِ): بالعين المهملة، وهو رفيعُ بن مهران الرِّياحي _بحاءٍ مهملة ومثناةٍ تحتية_ (وَعَطَاءٌ): أي: ابنُ أبي رباح، فيما وصلهُ عنه عبد الرَّزاق (وَابْنُ سِيرِينَ): أي: محمَّد، فيما وصَله عنه وعن أبي العَالية ابن أبي شيبةَ من طريق عاصمٍ الأحول (صَدَقَةَ الْفِطْرِ فَرِيضَةً): بنصب ((فريضة)) على أنه مفعولٌ لـ((رأى)) القلبيَّة، فافهم.
          والقولُ بالفرضية: هو مذهبُ الجمهور، ومنهم الشَّافعية، بل نقلَ ابنُ المنذر وغيره الإجماعَ على ذلك، وإنما اقتصَرَ البخاريُّ على هؤلاء الثلاثة؛ لأنهم صرَّحوا بفرضيَّتها، ولا يردُّ عليه أنَّ الحنفيَّةَ قائلون بوجوبها على قاعدَتهم؛ لأنَّ مرادَه بالفرضيَّةِ مطلَقُ اللزُوم والوجُوب بقطع النَّظر عن ثبوتِ الحكمِ بدليلٍ قطعِيٍّ أو ظنِّي، نعم، يردُّ عليه ما نقلَ بهرام عن مالك: أنها سُنَّة، والمالكيَّةُ عن أشهب: أنَّها سُنَّة مؤكدة، وكذا ما نقلَ عن ابن اللَّبان من الشافعيَّة.
          لكن قال في ((الروضة)): مخالفةُ ابن اللبان فيه غلطٌ صريحٌ، وقد قال بعدمِ وجوبها أيضاً بعضُ أهل الظَّاهر وابنُ علية وابن كَيسَان الأصم.
          وذكر العيني وغيره: أنَّ العلماءَ اختلفوا في صدقةِ الفطر، هل هي فرضٌ أو واجبةٌ أو سُنَّة أو فعل خيرٍ مندوب إليه؟ فقالت طائفة: هي فرضٌ وهم الثلاثةُ المذكورون هنا والشَّافعي ومالك وأحمد، وقال أصحَابنا: واجبة، وقالتْ طائفة: سنَّةٌ، وهو قولٌ عن مالكٍ ورواية عندنا، وقال بعضُهم: هي فعلُ خيرٍ كانت واجبةً ثمَّ نُسِخَت، واستدلُّوا عليه بحديث قيس بن سعد بن عُبادَة قال: ((أَمَرنا النَّبيُّ بصَدقَةِ الفِطْرِ قبل أنْ تنزلَ الزَّكاةُ، فلمَّا نزلَتْ لم يأمرْنا ولم ينهَنا ونحنُ نفعله)) رواه النَّسائي وابنُ ماجه والحاكم، ورواه الحاكمُ من وجهٍ آخر، وقال: صحيحٌ على شرطِ الشَّيخين عن قيس المذكور قال: كنَّا نصُوم عاشوراء ونؤدِّي صَدقةَ الفطر، فلمَّا نزلَ رمضان ونزلت الزكاة لم نؤمرْ به، ولم نُنهَ عنه ونحن نفعلهُ.
          قال البيهقيُّ: هذا لا يدلُّ على سُقوط فرضِهَا، لاحتمَالِ الاكتفاء بالأمرِ الأوَّل؛ لأنَّ نزولَ فرضٍ لا يوجبُ سقوطَ آخر، وبأنَّ في إسنادِ الأول راوياً مجهولاً.
          وتأوَّلَ القائلون بعدمِ الفرضيَّةِ حديثَ الباب بأنَّ ((فَرَضَ)) بمعنى: قدر، وردَّهُ ابن دقيق العيد: بأنَّ هذا وإنْ كان أصله في اللُّغة، لكنْ نقل في عُرف الشَّرع إلى الوجُوبِ، فالحملُ عليه أولى وأيَّد أيضاً بتسميتها زكاة.
          لطيفة: سأل ابن المنير: كيف اتَّفقوا على وجوب زكاة المال مع أنَّها طُهرةٌ للمال، واختلفوا في إيجاب زكاة الفطرِ مع أنَّها طُهرَةٌ للنَّفس؟
          وأجاب: بأنَّ إضَافةَ زكاة المالِ إلى تطهيرهِ مجازٌ، وإنما هي طهرةٌ في الحقيقةِ للنَّفس، والمالُ ليس مكلفاً حتى يطهُرَ حقيقةً، وأيضاً فإنَّ المالَ لا يطهُر إلا بالزَّكاة، وأما النَّفسُ فإنها تطهُرُ أيضاً بالعبَادات البدنيَّة، فلذا تأكَّد أمرُ المال فلم يجزْ فيه خلافٌ. انتهى فليتأمَّل.
          وقد اعترضَ الدَّماميني الوجهَ الأول: بأنَّ مآله أنَّ زكاةَ المالِ والفطرِ كِلتَاهما طهرةٌ للنَّفس فلم يحصل جوابٌ، فتأمَّل.