الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

[كتاب أحاديث الأنبياء]

          ♫
          ░░60▒▒ (كِتابُ أحَادِيثِ الأنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلاَةُ والسَّلاَم) كذا في نسخٍ، وعزَاهَا في ((الفتح)) لبعضِ نسخ روايةِ كريمةَ، قال: وفي رواية أبي عليِّ بن شَبويه نحوهُ، وقدَّمَ الآيةَ الآتيةَ / في التَّرجمةِ على البابِ، ومثلُهُ في ((العُمدة))، ووقعت في بعضٍ آخر مؤخَّرةً، ووقع في بعض النُّسخِ: <كتابُ الأنبياء عليهم السلام>، وفي بعضٍ آخرَ: <باب خلق آدم عليه السلام> من غير ذكر شيءٍ قبلَهُ، وسقَطتِ البسملةُ من بعضِ الأصولِ، ووقعَ في بعضِ النُّسخِ:
           (<بابُ خَلْقِ آدَمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه وَسَلَامُهُ وَذُرِّيَّتِهِ، كتَابُ الأنبيَاءِ>) وعليها شرحَ القسطلَّانيُّ وتبعنَاهُ، فقولُهُ: ((خلق)) مصدرٌ مضَافٌ لمفعولهِ بعدَ حذفِ الفاعِلِ؛ أي: خلقَ اللهُ آدمَ، وقولُهُ: ((وذرِّيَّتِهِ)) أي: نسلِهِ، قالَ الجوهريُّ: الذُّرِّية: نسلُ الثَّقلين، عطفَ على ((آدم))، وتُجمعُ على: ذرارِي وذرِّيَّاتٍ، وأصلُهُ الهمزُ؛ لأنَّهُ من ذَرَأَ _بالهمزِ_ بمعنى: خلقَ، ثمَّ إن العربَ تركتْ همزةَ ذريَّة فأبدلوها ياءً، وقال في ((المغرب)): ذرِّيَّةُ الرَّجلِ أولادُهُ يكونُ واحداً وجمعاً، ومنه: {هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً} [آل عمران:38].
          و((الأنبيَاءُ)) جمع: نَبيٍّ بالهمزِ وتركهِ، وهما قراءتَانِ في نحو: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ}.
          قال في ((الفتح)): والهمزُ هو الأصلُ وتركُهُ تسهِيلٌ، وقيلَ: الَّذي بالهمزِ من النَّبأ، والذي بغيرِ همزٍ من النُّبوَّةِ وهي الرِّفعةُ، والنُّبوَّةُ: نعمةٌ يمنُّ اللهُ بها على من يشاءُ من عبَادِهِ، ولا يبلُغُها أحدٌ بعِلمهِ ولا كشفِهِ ولا يستحقُّهَا باستِعدادِ ولايتِهِ، ومعناهَا الحقِيقيُّ شَرعاً: من حصلَتْ له النُّبوَّةُ وليسَتْ راجِعةً إلى جسْمِ النَّبيِّ ولا إلى عرضٍ من أعراضِهِ بل ولا إلى علمهِ بكونِهِ نبيًّا، بل المرجِعُ إعلامُ الله لهُ بأنِّي نبأتُكَ أو جعلتُكَ نبيًّا، وعلى هذا فلا تبطُلُ بالموتِ كما لا تبطُلُ بالنَّومِ والغَفلةِ، انتهى فتأمَّله.
          واختُلِفَ في عددِ الأنبيَاءِ عليهم السَّلام فقيل: مائتا ألفٍ وعشرُونَ ألفاً، وقيل: غيرُ ذلك، روى ابنُ حبَّان في ((صحيحه)) وابنُ مردويهِ في ((تفسيره)) عن أبي ذرٍّ قال: قلتُ: يا رسُولَ اللهِ، كم الأنبيَاءُ؟ قال: ((مائةُ ألفٍ وأربعَةٌ وعشرُونَ ألفاً)) قال: قلتُ: يا رسُولَ اللهِ، كم أُرسِلَ منهم؟ قال: ((ثلاثمَئةٍ وثلاثةَ عشرَ جمٌّ غفِيرٌ)).
          وروى أبو يعلَى الموصلي عن أنسِ بن مالِكٍ قال: قالَ رسُولُ الله صلعم: ((بعَثَ اللهُ ثمانيَةَ آلافِ نبيٍّ؛ أربعَةُ آلافٍ إلى بنِي إسرَائِيلَ، وأربعَةُ آلافٍ إلى سائرِ النَّاسِ)).
          وعندَ الإسماعيليِّ عن أنسٍ قال: قال رسُولُ اللهِ صلعم: ((بعثْتُ على إثرِ ثمانِيةِ آلافِ نبيٍّ، منهم أربعَةُ آلافٍ من بَنِي إسرائِيلَ)).
          تنبيهٌ: سمِّيَ آدمُ به؛ لأنَّهُ خُلِقَ من أُدمَةِ الأرضِ وهي لونُها، والأُدمَةُ في النَّاسِ السُّمرَةُ الشَّدِيدةُ، وروى سعيدُ بن جُبيرٍ عن ابن عبَّاسٍ: أنَّ آدم خُلِقَ من أدِيمِ الأرضِ، وهو وجهُهَا.
          وروى مجاهدٌ عنه أيضاً: أنَّه مشتقٌّ من الأُدمَةِ، وقال الثَّعالبيُّ: التُّرابُ بالعبريَّةِ اسمهُ آدام فسمِّيَ به آدمُ بعد حذفِ الألفِ الثَّانيةِ، وقيلَ: إنَّهُ اسمٌ سُريانِيٌّ، وقيل: إنَّه عربيٌّ، وجزمَ به الجوهَريُّ، وكذا الجواليقيُّ قال: أسماءُ الأنبيَاءِ كلُّها أعجَميةٌ إلا أربعَةٌ: آدمٌ وصالحٌ وشعيبٌ ومحمَّدٌ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ، وعليه: فمنعُهُ من الصَّرفِ للعلميَّةِ ووزنِ الفعل، والمانعُ له على غيرهِ العلميَّةِ والعجمةِ، وقيل: إنَّهُ مشتقٌّ من آدمتُ بين الشَّيئين إذا خلطتُ بينهما؛ لأنَّهُ كان ماءً وطيناً فخُلِطَا جميعاً.
          قال العينيُّ: المشهورُ أن كنيتَهُ أبو البِشْرِ، وروى الوَالبيُّ عن ابن عبَّاسٍ: أن كنيتَهُ أبو محمَّدٍ، وقال قتادةُ: لا يكنى في الجنَّةِ إلا آدَمُ، يقالُ له: يا أبا محمَّدٍ، إظهاراً لشرفِ نبيِّنا محمَّدٍ صلعم، وذُكِرَ في القُرآنِ في سَبعةٍ وعشرينَ موضعاً، انتهى.
          وقد ذكر البُخاريُّ على عادتِهِ الغالبةِ تفسيرَ شيءٍ من القرآنِ يناسبُ التَّرجمةَ، فقال: ({صَلْصَالٌ}) أي: من قولِهِ تعالى في سورةِ الحجر: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر:26] أو من قولهِ تعالى في سُورةِ الرحمنِ: / {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} [الرحمن:14] قال البيضَاويُّ: في تفسير الحجرِ {مِنْ صَلْصَالٍ} أي: من طِينٍ يابِسٍ، يصلصِلُ؛ أي: يصوِّتُ إذا نُقِرَ، وقيل: هو من صلصَالٍ إذا أنتنَ، تضعيفُ صلٍّ.
          {مِنْ حَمَإٍ} أي: طينٍ تغيَّرَ واسودَّ من طولِ مجاوَرتِهِ الماءَ، وهو صفةُ {صلصال}.
          {مَسْنُونٍ} أي: مصوَّرٌ من شنَّة الوجْهِ أو مصبُوبٌ ليبسِهِ، ويتصوَّرُ كالجواهِرِ المذَابةِ تصبُّ في القَوالِبِ من السنِّ: وهو الصبُّ كأنَّهُ أفرغَ الحَمَأ فصوَّرَ منها تمثالَ إنسَانٍ أجوفَ فيبسَ، حتى إذا نُقِرَ صلصلَ ثم غُيِّرَ ذلك طَوراً بعد طورٍ حتى سوَّاهُ ونفخَ فيه من روحِهِ، أو منتنٌ من سننتُ الحجرَ على الحجرِ: إذا صككتُهُ به، فإنَّ ما يسيلُ بينهما يكون منتِناً ويسمَّى السِّنين، وقال: في تفسيرِ سُورةِ الرَّحمنِ: الصِّلصالُ: الطِّينُ اليابسُ الذي له صلصَلةٌ، والفخَارُ: الخزفُ، خلقَ اللهُ آدمَ من ترابٍ جعلَهُ طيناً ثم جعلَهُ حمأً مسنُوناً ثمَّ صلصَالاً، فلا يخالفُ ذلكَ قوله تعالى: {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} [آل عمران:59] انتهى.
          ولعلَّ البُخاريَّ أشارَ إلى ما في سورة الرَّحمنِ لقولِهِ الآتي: ((كما يصلصِلهُ الفخَارُ)) فقوله: ((صَلصالٌ)) مبتدأٌ مرفوعٌ أو مجرورٌ على الحكايةِ و(طِينٌ خُلِطَ بِرَمْلٍ فَصَلْصَلَ كَمَا يُصَلْصِلُ الْفَخَّارُ) أي: فصوَّتَ كما يصوِّتُ الفخارُ إذا نُقِرَ.
          وهذا كما في ((الفتح)): تفسيرُ الفرَّاءِ، وقال أبو عُبيدةَ: الصَّلصالُ: اليَابسُ الذي لم تصبْهُ نارٌ فإذا نقرتَهُ صلَّ فسمعْتَ له صلصَلةً، فإذا طُبِخَ بالنَّارِ فهو فخَّارٌ وكلُّ شيءٍ له صوتٌ فهو صلصَالٌ، وروى الطَّبريُّ عن قتادَةَ نحوه.
          (وَيُقَالُ: مُنْتِنٌ) أرادَ به أنَّه جاءَ في اللُّغةِ تفسيرُ: ((صلصال)) بمنتنٍ، ومنهُ صلَّ اللَّحمُ يَصِلُّ، صُلُولاً؛ أي: أنتنَ مطبوخاً كان أو نيِّئاً، وهذا التَّفسِيرُ مرويٌّ عن مجاهِدٍ، ورويَ عن ابن عبَّاسٍ أنَّ المنتنَ تفسير المسنُونِ، كذا في ((الفتح)).
          وقال في ((العمدة)): وعن ابن عبَّاسٍ: الصَّلصَالُ: هو الماءُ يقعُ على الأَرضِ فتنشق ويصيرُ لَهُ صَوتٌ.
          (يُرِيدُونَ بِهِ صَلَّ) هذا الكَلامُ... إلخ كأنَّهُ من كلامِ المصنِّفِ، قالَهُ في ((الفتح)).
          و((صَلَّ)) بفتحِ الصَّاد المهملةِ واللام المشدَّدة؛ أي: ثم ضوعِفَ فصارَ صلصَلَ، ومصدرُهُ: صلصَلةً، وكذا صِلصَال بالكسرِ والفتحِ.
          (كَمَا يُقَالُ) ولأبوي ذرٍّ والوَقتِ: <كما تقول> (صَرَّ الْبَابُ) أي: صوَّتَ (وَصَرْصَرَ) أي: الباب (عِنْدَ الإِغْلاَقِ) فضُوعفَ الفعلُ (مِثْلُ كَبْكَبْتُهُ يَعْنِي: كَبَبْتُهُ) أي: قلبتُهُ، فالأوَّل زائدٌ بكافٍ كقولهِ تعالى: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا} [الشعراء:94].
          وقولُهُ: ({فَمَرَّتْ بِهِ}) أرادَ به ما في قولِهِ تعالى في أواخرِ سورة الأعرافِ: {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ} [الأعراف:189] (اسْتَمَرَّ بِهَا الْحَمْلُ فَأَتَمَّتْهُ) معنى: {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} أي: جامعَ آدمُ حوَّاءَ، {حَمَلَتْ} جوابُ: {لمَّا}، {حَمْلاً} مفعولُهُ.
          {خفيفاً}، قال البيضَاويُّ: خفَّ عليها ولم تلقَ منه ما تلقَى الحوامِلُ غَالباً من الأذَى، أو محمُولاً خفيفاً هو النُّطفةُ {فَمَرَّتْ بِهِ} فاعلُهُ عائدٌ إلى حوَّاءَ، وضميرُ {بِهِ} للحَملِ، والمعنى كمَا قال البَيضَاويُّ: فاستمرَّتْ به وقامَتْ وقعدَتْ، هذا تفسيرٌ لقولهِ: {فَمَرَّتْ بِهِ} يعني: بقيتْ حاملاً حتى وضعتْهُ، قال: وقُرِئ: ▬فمرت↨ بالتَّخفيفِ، و▬فاستمرَّتْ↨ و▬فمَارَتْ↨ من المَورِ، وهو المجِيءُ والذَّهابُ ومن المريَةِ؛ أي: فظنَّتِ الحَمْلَ وارتابَتْ به.
          وقولُهُ: ({أَنْ لاَ تَسْجُدَ} أَنْ تَسْجُدَ) يريدُ أنَّ ((لا)) زائِدةٌ في قولهِ تعَالى في أوائلِ الأعرافِ: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} [الأعراف:12] وفائدَتُها التَّأكيدُ، والخطَابُ لإبليسَ، إذ المعنى على زيادَةِ: {لا}، وبدليلِ: {ما} في أواخِرِ ((ص)) من حذفِهَا، قالَ البَيضَاويُّ: {لا} صلةٌ، مثلهُا في: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} [الحديد:29] [مؤكدة] معنى الفَعلِ الذي دخلَتْ عليه، ومنبِّهةٌ على أن الموبَّخَ عليه تركُ السُّجودِ، قال: وقيلَ: الممنُوعُ من الشَّيءِ مضطرٌّ إلى خلافِهِ، فكأنَّهُ قيل: ما اضطرَّكَ إلى ألا تسجُدَ إذ أمرتُكَ.
          وقال في ((الفتح)): يعني أنَّ {لا} زائدةٌ، وأخذَهُ من كلامِ أبي عُبيدةَ، وزادَ: و((لا)) من حروفِ الزوائدِ كقولِ الشَّاعر / :
ويُلِحِّينَنِي في اللَّهوِ أنْ لا أحبَّهُ                     وللَّهوِ دَاعٍ دائِبٌ غَيرُ غَافلِ
          وقيل: ليسَتْ زائِدةً، بل فيه حذفٌ تقديرُهُ: ما منعَكَ من السُّجودِ فحملَكَ على أنْ لا تسجُدَ.