الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب من تكلم بالفارسية والرطانة

          ░188▒ (بَابُ مَنْ تَكَلَّمَ): أي: بيانِ مَن نطَقَ (بِالفَارِسِيَّةِ): أي: باللغةِ الفارسيةِ، وفي ذلك إشارةٌ إلى جوازِ التكلُّمِ بالفارسيةِ وبالعجَميةِ، ومثلُهما غيرُهما، لكن ينبغي لمَنْ يُحسِنُ العربيةَ أن لا يتكلَّمَ بغيرِها من غيرِ حاجةٍ للغيرِ.
          ففي ((السيرةِ الحلَبيةِ)): وجاء: مَن أحسَنَ أن يتكلَّمَ بالعربيةِ فلا يتكلَّمْ بالفارسيةِ، فإنه يورِثُ النفاقَ، و((الفارسيَّةِ)) نسبةً إلى فارسِ بنِ كَومَرَثَ، ويقال له: فارس الكُبرى، ومعناه: الحيُّ الناطقُ، واختُلفَ في كَومَرَثَ، فقيل: إنه من ذريةِ سامِ بنِ نوحٍ، وقيل: من ذريةِ يافِثَ بنِ نوحٍ، وقيل: إنه ولدُ آدمَ لصُلبِه، وقيل: إنه آدمُ نفسُه، وقيل: إنهم من ولدِ هذرام بنِ أرْفَخْشَدَ بنِ سامِ بنِ نوحٍ، وقيل: نسبتُه إلى فارسِ بنِ عاثورِ بنِ يافِثَ بنِ نوحٍ عليه السلام.
          قال عليُّ ابنُ كَيسانَ النسَّابةُ: ويقالُ لهم الفرسُ؛ لأنَّ جدَّهم الأعلى وُلدَ له سبعةَ عشَرَ ولداً، كان كلٌّ منهم شُجاعاً فارِساً، فسُمُّوا الفُرسَ.
          قال في ((الفتح)): وفيه نظرٌ؛ لأنَّ الاشتِقاقَ يختصُّ باللسانِ العربيِّ، قال: والمشهورُ أنَّ إسماعيلَ بنَ ابراهيمَ أولُ مَن ذُلِّلت له الخيلُ، والفروسيةُ ترجِعُ إلى الفرَسِ من الخيلِ، وأمَّةُ الفُرسِ كانت موجودةً، انتهى، فتأمل.
          قال العينيُّ: وكان دينهُم الصابئيةَ، ثم تمجَّسُوا وبنَوا بيوتَ النيرانِ، وكانوا أهلَ رئاسةٍ وسياسةٍ وحُسنِ مملكةٍ وتدبيرٍ للحربِ ووضعِ الأشياءِ مواضِعَها، ولهم الترسُّلُ والخَطابةُ والنَّطاقةُ وتأليفُ الطعامِ واللِّباسِ، ومن كتُبِهم استَملى الناسُ رسومَ المِلكِ.
          (وَالرَّطَانَةِ): / بفتحِ الراء ويجوزُ كسرها، هي: كلامُ غيرِ العربيِّ، وقال الكرمانيُّ: هي الكلامُ بالأعجميةِ، وقال صاحبُ ((الأفعالِ)): يقالُ: رطَنَ رَطانةً؛ إذا تكلَّمَ بكلامِ العجَمِ، وقال ابنُ التينِ: هي كلامٌ لا يُفهَمُ، ويُخصُّ بذلك كلامُ العجَميِّ.
          وقال في ((القاموس)): الرَّطانةُ: الكلامُ بالأعجَميَّةِ، ورطَنَ له وراطَنَه: كلَّمَه بها، وتَراطنُوا: تكلَّمُوا بها، وما رُطَّيناك؟ _هذه بالضم، وقد تخفَّفُ_؛ أي: وما كلامُك؟ انتهى.
          وقال الكُفيريُّ: الرطانةُ _بفتحِ الراء وكسرها_، والتراطنُ: كلامٌ لا يفهَمُه الجمهورُ، وإنما هو مواضَعةٌ من اثنَينِ أو جماعةٍ، والعربُ تخصُّ بها غالباً كلامَ العجَمِ، والمرادُ بها الكنايةُ، انتهى، فتدبَّر.
          قال في ((الفتح)): قالوا: فقهُ هذا البابِ يظهرُ في تأمينِ المسلمين لأهلِ الحربِ بألسنتِهم، وقال شيخُ الإسلامِ: ومناسَبةُ هذه الترجمةِ مع حديثيها الأخيرَينِ لكتابِ الجهادِ أنَّ الإمامَ إذا أمَّنَ أهلَ الحربِ بلسانِهم ولغتِهم يكونُ ذلك أماناً؛ لأنَّ اللهَ تعالى يعلمُ الألسِنةَ كلَّها، وأما حديثُها الأولُ؛ فمناسبتُه للجهادِ تؤخَذُ من ذِكرِ الخندقِ فيه، انتهى.
          وقال الكرمانيُّ: مناسبةُ الحديثِ الأولِ لكتابِ الجهادِ ظاهرٌ؛ لأنه كان في يومِ الخندقِ، وأما الآخَرانِ؛ فبالتبعيةِ له، وكثيراً ما يفعلُ البخاريُّ مثلَ ذلك، انتهى.
          واعترضه في ((الفتح)) فقال: ولا يخفى بعدُه، والذي أشرتُ إليه أقربُ، فتأمل.
          تنبيه: في ترجمةِ المصنِّفِ المذكورةِ إشارةٌ إلى جوازِ التكلُّمِ بالفارسيةِ والعجَميةِ، ويقاسُ بهما غيرُهما مطلقاً، لكن ينبغي لمَن يحسِنُ العربيةَ ولا يحتاجُ إلى غيرِها أن لا يتكلَّمَ بغيرِها، ففي ((السيرةِ الحلبيةِ)): جاء: مَن أحسنَ أن يتكلَّمَ بالعربيةِ، فلا يتكلَّمْ بالفارسيةِ، فإنه يورِثُ النِّفاقَ، انتهى.
          وقال ابنُ التينِ: إنما يُكرهُ أن يتكلَّمَ بالعجميةِ إذا كان بعضُ مَن حضَرَ لا يفهَمُها، فيكونُ يُناجي القومَ دون ثالثٍ، لكن قال في ((فتح الباري)): وأشار المصنِّفُ إلى ضَعفِ ما وردَ من الأحاديثِ في كَراهةِ الكَلامِ بالفارسيةِ؛ كحديثِ كلامِ أهلِ النارِ بالفارسيةِ، وكحديثِ: ((مَن تكلَّمَ بالفارسيةِ، زادَتْ في خَيبتِه، ونقَصَ من مُروءتِه)).
          وأخرجه الحاكمُ في ((مستدرَكِه))، وسندُه واهٍ، وأخرجَه فيه أيضاً عن عمرَ رفعَه: ((مَن أحسَنَ العربيةَ فلا يتكلَّمَنَّ بالفارسيةِ؛ فإنَّه يورِثُ النِّفاقَ...)) الحديثَ، قال: وسندُه واهٍ، انتهى، فتأمل.
          (وقولِ الله تعالى): ولأبي ذرٍّ: <╡> وفي بعضِ النُّسخِ: <وقولِه تعالى>، و((قولِ)) مجرورٌ عطفاً على: ((مَن))، ويجوزُ رفعُه على أنَّه مبتدأٌ، وخبرُه محذوفٌ يقدَّرُ بنحوِ: ما يتعلَّقُ بذلك.
          ({اخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ}) برفعِ: {اخْتِلَافُ} عطفاً على ما قبلَه من الآيةِ في سورةِ الرومِ؛ وهي: قولُه تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم:22]
          فقولُه: {اخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ} أي: تغايُرُ لُغاتِكم بأنْ علَّمَ كلَّ صنفٍ لغتَه، أو ألهَمَه وضْعَها وأقدَرَه عليها، أو أجناسِ نُطقِكُم وأشكالِه؛ فإنَّه لا تَكادُ تسمَعُ منطِقَينِ متَساويَينِ في الكيفيَّةِ، لا في هَمسٍ واحدٍ ولا جَهارةٍ، ولا حِدَّةٍ ولا رَخاوةٍ، ولا فَصاحةٍ ولا لَكْنةٍ، ولا نَظْمٍ ولا أسلوبٍ، ولا غيرِ ذلك من صفاتِ النُّطقِ وأحوالِه.
          وكان أصلُ اختلافِ اللغاتِ من هُودٍ، ألقى اللهُ على ألسِنةِ كلِّ فريقٍ اللِّسانَ الذي يتكلَّمونَ به ليلاً، فأصبحُوا لا يُحسِنون غيرَه.
          فائدة: قال الكُفيريُّ: واعلم أنَّ جميعَ لغاتِ أولادِ آدمَ اثنان وسبعون لساناً، منها أولادُ سامٍ تسعةَ عشَرَ، وأولادُ حامٍ سبعةَ عشَرَ، وأولادُ يافِثَ ستةٌ وثلاثون، انتهى.
          وفي ((شرحِ الهمزيَّةِ)) لابنِ حجرٍ المكيِّ: وصحَّ خبرُ أنَّ آدمَ كان يتكلَّمُ بكلِّ لسانٍ، ولكنِ الغالبُ أنه كان يتكلَّمُ بالسُّريانيِّ.
          ({وَأَلْوَانِكُمْ}) أي: بياضِ الجلدِ وسوادِه، أو تخليطاتِ الأعضاءِ وحيائها / وألوانِها وحَلاها بحيثُ وقعَ التمايُزُ والتعارفُ، حتى أنَّ التوأمَينِ مع توافُقِ موادِّهما وأسبابِهما، والأمورِ الملاقيةِ لهما في التخليقِ، يختلفانِ في شيءٍ من ذلك لا مَحالةَ؛ أي: في أولادِ رجلٍ واحدٍ وامرأةٍ واحدةٍ؛ وهما: آدمُ وحوَّاءُ.
          (وقوله): ولأبي ذرٍّ: <وقال> أي: اللهُ تعالى في أولِ سورةِ ابراهيمَ: ({وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم:4]) أي: إلا بلغةِ قومِ الرسولِ المرسَلِ إليهم؛ ليُبيِّنَ لهم فيفهَمُوا عنه، فلا يكونُ لهم حُجَّةٌ على اللهِ، ولم يقولوا: لم نفهَمْ ما خوطِبْنا به، كما قالَ تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآَناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ} [فصلت:44] وقُرئَ: ▬بلِسْنٍ↨ بسكونِ السين، كرِسْنٍ ورَياسِنَ لغةً، و{لِسَانِ} وقُرئَ: ▬بلُسُنٍ↨ بضمِّ اللام والسين، وقُرئَ: ▬بلُسْنٍ↨ بضمِّ اللام وسكونِ السِّين تخفيفاً، وقيل: الضميرُ في: {قَوْمِهِ} لمحمدٍ صلعم، وروَوه عن الضَّحَّاكِ، وأنَّ الكُتبَ كلَّها أُنزلَت بالعربيَّةِ، ثم أخرجَها جِبريلُ أو كلُّ رسولٍ بلغةِ قومِه، ويرُدُّه قولُه: {لِيُبَيِّنَ لَهُمْ}؛ فإنَّ ضميرَه لـ{قَوْمِهِ} وهم: العربُ، والتَّوراةُ والإنجيلُ ونحوُهما لم يَنزِلْ ليُبيَّنَ للعرَبِ، قاله البيضاويُّ كـ((الكشَّاف))، فتأمله.
          وعلى رجوعِ ضميرِ: {قَوْمِهِ} لـ{رَسُولٍ} المرسَلِ إليهم، فيه إشارةٌ _كما قال كثيرٌ من الشُّرَّاحِ_ إلى أنَّ نبيَّنا محمداً صلعم كان يعرِفُ جميعَ اللُّغاتِ؛ لعمومِ رسالتِه للثقلَينِ المختلِفةِ ألسنتُهم، فجميعُ الأممِ قومُه، فاقتضى أن يعرِفَ ألسنتَهم؛ ليَفهَمَ عنه ويفهَمُوا عنه، زاد في ((الفتح)) أخذاً من ((الكشَّافِ)) أن يُقالَ: لا يستَلزِمُ ذلك نطقُه بجميعِ الألسِنةِ؛ لإمكانِ التُّرجُمانِ الموثوقِ به عندهُم.