الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب الحور العين وصفتهن

          ░6▒ (باب الحُورِ الْعِينِ وَصِفَتِهِنَّ) بإثباتِ: ((بابُ)) وإضافتِه للأكثرِ، وسقطَ لأبي ذرٍّ، وعليه فـ<الحورُ> مبتدأٌ، و<العِينُ> نعتُه، و<صفتُهُنَّ> عطفٌ على: <الحورُ>، والخبرُ محذوفٌ؛ أي: الحورُ العينُ وصِفتُهنَّ يأتي بيانُهما أو ما نذكرُه، وجملةُ: (يَحَارُ فِيهَا الطَّرْفُ) مستأنَفةٌ أو حالٌ، كذا قرَّره العينيُّ ومَن تبِعَه، ولو جَعلَ الخبرَ جملةَ: ((يحارُ فيها الطرفُ)) لم يحتَجْ إلى تقديرٍ، ولم يُثنِّ ضميرَ: ((فيها))؛ أي: باعتِبَارِ أنَّ الحورَ وصِفتَهنَّ جمعٌ، أو لتأويلِهِمَا بالمذكورةِ، فافهمْ.
          وعلى إثباتِ: ((بابُ)) يجوزُ تنوينُه وإعرابُ ما بعدَهُ كما مرَّ، ووقعَ لابنِ بطَّالٍ: <بابُ نزولِ الحُورِ> قال في ((الفتح)): لم أرَهُ لغيرِهِ.
          وأقولُ: بل رأيناه في بعضِ النُّسخِ الصَّحِيحةِ كذلكَ.
          و((الحُورِ)): بضمِّ الحاءِ المهملةِ وسكون الواو ولا تحرَّكُ، وإنْ قالَ القسطلانيُّ: و((الحُور)): بضمِّ الحاءِ وسكون الواو وتحرك، انتهى، فتأمَّلْه.
          و((الحُورِ)): جَمعُ: حَوْراءَ _بفتح الحاءِ وسكونِ الواو والمد_، وتكونُ جمعَ: أحوَرَ أيضاً، كما في ((القاموس))، وسيأتي آخرَ البابِ ذكرُ شيءٍ من أحوالِ الحُورِ.
          وقوله: ((العِين)) بكسر العين، جمعُ: عَيناءَ _بفتحها والمد_؛ وهي: الواسعةُ العينِ الشَّديدةُ السَّوادِ والبياضِ، ويقالُ في الرجلِ: أعيَنُ؛ أي: واسِعُ العينِ مع سَوادِها، ففي ((القاموس)): عَيِنَ _كفَرِح_ عَيَناً وعِيْنةً _بالكسر_؛ عَظُم سوادُ عينِهِ في سَعةٍ، فهو أعيَنُ، والعِينُ _بالكسر_: بقرُ الوحشِ، انتهى.
          وأصلُ العينِ بكسرِ العين: عُين بضمها، فقُلبتِ الضَّمةُ كسرةً لتسلَمَ الياءُ من قلبِهَا واواً.
          و((يَحارُ)) بفتح التحتية، مَن يحارُ؛ أي: يتحيَّرُ فيها الطَّرفُ؛ أي: البصَرُ لحُسنِها البَارعِ، وقال في ((المُغربِ)): الطَّرفُ: تحريكُ الجَفنِ بالنَّظرِ، وقال / في ((المصباح)): طرَفَ البصرُ طَرْفاً _من بابِ: ضرَبَ_ تحرَّكَ، وطَرْفُ العينِ: نظَرُها، ويُطلقُ على الواحدِ وغيرِه؛ لأنَّه مصدرٌ، انتهى.
          تنبيه: اعتَرضَ ابنُ التينِ على البخاريِّ في قولِه: ((يَحارُ فيها الطَّرفُ))، فقال: هذا يُشعرُ بأنه رأى أنَّ اشتِقاقَ الحُورِ من الحِيرةِ، وليس كذلك؛ فإنَّ الحُورَ بالواوِ، والحِيرةَ بالياءِ.
          قال: وأما قولُ الشاعرِ:
حَوراءُ عَيناءُ من العِينِ الحِيرِ.
          فهو للاتِّباعِ، وأجابَ في ((الفتح)) فقال: قلتُ: لعلَّ البخاريَّ لم يُردِ الاشتقاقَ الأصغرَ، انتهى.
          واعترضَ العينيُّ على ((الفتح)) فقال: لم يقُلْ أحدٌ: الاشتقاقُ الأصغرُ، وإنما قالوا: صغيرٌ وكبيرٌ وأكبرُ، قال: ولا يصحُّ أن يكونَ مشتَقًّا من واحدٍ من الثلاث، انتهى.
          وأجاب شيخُ الإسلامِ عن اعتراضِ ابنِ التِّينِ فقال: ((يَحارُ)) بفتح الياء، أصلُه: يحورُ، قُلبتِ الواوُ ياءً تخفيفاً، ثم قُلبتِ الياءُ ألفاً، فهو واويٌّ، فسقَطَ ما قيل: إن البخاريَّ ظنَّ أنه يائيٌّ مع أنه واويٌّ، انتهى، فليتأمل.
          فإنَّ المتبادَرَ أنَّ: ((يَحارُ)) هنا من التَّحيُّرِ والحيرةِ، وهو يائيٌّ قطعاً، وضميرُ: ((فيها)) للحُورِ أو للعِينِ.
          (شَدِيدَةُ سَوَادِ الْعَيْنِ، شَدِيدَةُ بَيَاضِ الْعَيْنِ) برفعِ: ((شديدةُ)) في الموضِعَين في الأصولِ المعتمدةِ على أنه خبرٌ بعد خبرٍ على ما جوَّزْناه في رفعِ: ((الحُور العين)) بالابتداءِ، ويجوزُ جعلُها خبراً لمحذوفٍ، وهما كما قال شيخُ الإسلامِ تفسيرٌ من البخاريِّ لـ((العِين)) في قوله: ((الحُور العين))، قال: وفسَّرهنَّ غيرُه بواسعاتِ العيونِ، انتهى.
          وأقولُ: كونُهما تفسيراً لـ((العِين)) لا يتعيَّنُ وإن سبَقَه لذلك في ((العمدة)) و((الفتح))، لكن ((الفتح)) قال: كأنَّه يريدُ تفسيرَ: ((العِين...)) إلخ، بل يجوزُ أن يكونا تفسيرَينِ للحُورِ، فإنهنَّ كما تقدَّمَ جمعُ: حَوراءِ، من الحَوَرِ _بفتحتين_ وهو كما في ((القاموس)): أن يشتَدَّ بياضُ بياضِ العَينِ وسَوادُ سَوادِها، وتستديرَ حدَقَتُها وترِقَّ جُفونُها ويبيَضَّ ما حوالَيهما، أو شدَّةُ بياضِها وسوادِها في شدَّةِ بياضِ الجسَدِ، أو اسوِدادُ العَينِ كلِّها مثلَ الظِّباءِ، ولا تكونُ في بني آدمَ، بل يُستعارُ لها، انتهى.
          ومثلُه لابنِ سيدَه: وقال كَراعٌ: الحُورُ أن يكونَ البَياضُ مُحدِقاً بالسَّوادِ كلِّه، وإنما يكونُ هذا في البقرِ والظِّباءِ، ويُستعارُ للنِّساءِ لشِبههنَّ بهما.
          وقولُه: ({وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ} [الدخان:54] أَنْكَحْنَاهُمْ) سقَطَ لأبي ذرٍّ: <{بِحُورٍ}>، وتفسيرُه بما ذكَرَ هو قولُ أبي عُبيدةَ، ولفظُه كما في ((الفتح)): {زَوَّجْنَاهُمْ}: جعلناهُم أزواجاً؛ أي: اثنَين اثنَين، كما تقولُ: زوَّجتُ النعلَ بالنعلِ، وقال في موضِعٍ آخرَ: أي: جعَلْنا ذُكرانَ أهلِ الجنَّةِ أزواجاً بحُورٍ من النساءِ، وتُعقِّبَ بأنَّ: زوَّجَ لا يتعدَّى بالباءِ، قاله الإسماعيليُّ وغيرُه، وفيه نظَرٌ؛ لأنَّ صاحبَ ((المحكَمِ)) حكاه، لكن قال: إنه قليلٌ.
          وعبارةُ البرماويُّ تَبعاً للزَّركَشيِّ: هذا خِلافُ المشهورِ عند المفسِّرين أنَّ: {زَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ} بمعنى: قرنَّاهم، فإنَّ: زَوَّجَ لا يتعدَّى بالباء على الأفصَحِ، قال في ((المحكم)): يقالُ: تزوَّجَ امرأةً وبامرأةٍ، وإن بعضَهم يعدِّيه بالباءِ، وقال: ليس من كلامِ العربِ.
          تنبيه: قال العينيُّ: وجهُ إدخالِ المصنِّفِ هذا / البابِ بين الأبوابِ المذكورةِ أنه لمَّا ذكَرَ درجاتِ المجاهدين، وذكَرَ أنَّ في الجنَّةِ مِائةَ درجةٍ، وأنَّ فيها: ((المرأةُ لو اطَّلعَت...)) إلخ، وهي من الحورِ العينِ، فناسَبَ ذِكرَها بطريقِ الاستِطرادِ.