الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب فضل رباط يوم في سبيل الله

          ░73▒ (باب فَضْلِ) أي: بيان فضيلة (رِبَاطِ يَومٍ) أي: مرابطةِ يومٍ، والمرادُ به مُطلق الزَّمن، وقال في ((الفتح)): وأمَّا التقييدُ باليوم في الترجمةِ وإطلاقه في الآية فكأنَّه أشار إلى أنَّ مُطلَقها يُقيَّد بالحديث فإنَّه يشعرُ بأنَّ أقلَّ الرِّباط يوم لسياقهِ في مَقامِ المبالغَةِ، وذكرَهُ مع موضعِ سوط يُشير إلى ذلك أيضاً، انتهى.
          (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي: في الجهادِ، فـ((باب)) مضافٌ لـ((فضل))، وإنْ كان كلامُ العيني قد يُوهم أنَّه منوَّن، ورِبَاط _بكسر الراء وبالموحدة_ مصدر رابط، / بوزن فاعل المزيد، ومجرَّده ربَط يربِط؛ بكسر الموحدة في المضارعِ وضمِّها.
          قال في ((القاموس)): رَبَطَه يَرْبِطه ويَرْبُطه: شدَّه، فهو مَرْبوط ورَبِيْط، والرِّباط: ما يُربَط به، والجمع: رُبُط، والفُؤاد والمُواظبَةُ على الأمرِ، ومُلازمةُ ثَغْر العدوِّ، كالمرابَطَة، والخيلُ: الخمْسُ منها فمَا فوقَها، وواحدُ الرِّباطاتِ المبنيَّةِ، أو المرابطة: أنْ يربُطُ كلٌّ من الفريقَينِ خُيُولهم في ثغرِهِ، وكلٌّ مُعِدٌّ لصاحبِهِ فسمَّى المقامَ في الثَّغر رباطاً، ومنه قولُه تعالى: {وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} [آل عمران:200] أو معناه: انتظارُ الصلاة بعد الصلاة لقوله صلعم: ((فذلكُم الرِّباط))، انتهى.
          قال القسطلانيُّ: ووجْه المفاعلةِ في هذا أنَّ كلاًّ من الكفَّار والمسلمين ربطُوا أنفسَهُم على حمايةِ طرفِ بلادِهِم من عدوِّهم والرِّباط مُراقبة العدوِّ في الثُّغور الملاصقة لبلادِهِم بحراسةِ من بها من المسلمين، وهو في الأصل الإقامة على الجهاد، وقيل: الرِّباط مصدر رابَط بمعنى: لازم، وقيل: هو اسمٌ لما يربطُ به الشيء؛ أي: يشدُّ فكأنَّه يربطُ نفسَه عمَّا يشغله عن ذلك، أو أنَّه يربطُ فرسَه التي يقاتلُ عليها، انتهى.
          ونقل ابنُ التِّين عن ابنِ حبيب المالكيِّ أن شرطَ الرِّباط أن يكون في غيرِ الوطن، قال: فليس مَن سكنَ الرِّباط بأهلهِ وماله وولدِهِ مُرابطاً بل هو من يخرجُ عن أهله وماله وولدِهِ قاصداً للرِّباط، انتهى.
          واعترضَهُ في ((الفتح)) فقال: وفي إطلاقهِ نظرٌ فقد يكون وطنُه وينوي بالإقامة فيه دفع العدو، ومن ثم اختارَ كثيرٌ من السلفِ سُكنى الثغور؛ أي: للمرابطةِ فيها والحراسةِ من العدوِّ، قال: فبين المرَابطة والحراسة عمومٌ وخصوصٌ وجهي، انتهى.
          وأقول: لو قال: فبين سُكنى الثغور والحراسة عموم... إلخ لكان ظاهراً، إذ المرَابطة يلزمُها الحراسة، فقد قال هو قبْلُ: والرِّباط مُلازمة المكانِ الذي بين المسلمين والكفَّار لحراسةِ المسلمين منهم، انتهى فتدبَّره.
          (وَقَوْلِ اللَّهِ تعَالى) وفي بعض الأصول: <وقوله تعالى> بإضافة قول للضَّمير، ولأبي ذرٍّ: <وقوله ╡> وعلى كلٍّ فـ((قول)) مجرورٌ عطفاً على ((فضل)) ويجوز رفعه عطفاً على باب، أو مبتدأ وخبرهُ محذوف.
          ({يَا أيهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا} إلى آخِرِ الآية) هذه رواية غير أبي ذرٍّ، وله ذكر الآية جميعِهَا إلى قوله: {تُفْلِحُونَ} وهي آخر سورة آل عمران.
          ووجه مناسبتِهَا للترجمةِ ظاهر، ومعنى الآية كما قال البيضاوي وغيره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا} أي: على مشاقِّ الطَّاعاتِ وما يُصيبُكم من الشَّدائد؛ أي: المصائبِ، وعن المعاصي {وَصَابِرُوا} أي: وغالبوا أعداء الله في الصِّبر على شدائدِ الحروبِ، وتخصيصُه بعد الأمرِ بالصَّبر مطلقاً لشدَّته، أو صابروا أعدَى عدوِّكم بمخالفةِ النَّفس والهوى {وَرَابِطُوا} أي: بأبدانكُم وخيولكُم في الثغور مترصِّدين للكفَّار، أو رابطوا أنفسِكُم على الطَّاعة.
          ففي ((الموطأ)) من حديثِ أبي هُريرة رفعَه: ((وانتظارُ الصَّلاة فذلِكُم الرِّباط)) وهو في ((السنن)) عن أبي سعيد الخُدري، وفي البغويِّ بسندهِ إلى أبي هريرة: أنَّ رسولَ الله صلعم قال: ((ألا أخبرُكُم بما يمحُو الله به الخطايا ويرفعُ به الدَّرجات: إسباغُ الوضوءِ على المكارِهِ، وكثرَةُ الخُطا إلى المساجِدِ، وانتظارُ الصَّلاة بعد الصَّلاة، فذلِكُم الرِّباط، فذلِكُم الرِّباط)).
          وفي ابنِ مردويهِ، وكذا في ((المستدرك)) للحاكم عن أبي سلمةَ بن عبد الرحمن بن عوف، قال: أقبل عليَّ أبو هريرة يوماً فقال: أتدري يا ابن أخي فيمَن نزلت هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} [آل عمران:200] قلت: لا، فقال: أما إنَّه لم يكنْ في زمان النَّبي صلعم غزو يُرابطون / فيه، ولكنَّها نزلت في قوم يَعمرون المساجدَ يصلُّون الصلاة في مَواقيتها، ثم يذكرونَ الله فيها ففيهم أنزلت: {اصْبِرُوا} أي: على الصَّلوات الخمس {وَصَابِرُوا} أي: أنفسَكُم وهواكم {وَرَابِطُوا} أي: في مساجدكم {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أي: فيما علَّمكم {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي: تفوزون بالجنَّة.
          لكن قال في ((الفتح)): حملَ الآيةَ على الأوَّل أظهر، وما احتجَّ به أبو سلمة لا حجَّة فيه ولا سيَّما مع ثُبوت حديث الباب، وعلى تقدير تسليم أنَّه لم يكنْ في عهدِهِ صلعم رباطٌ فلا يمنعُ ذلك من الأمر به والترغيب فيه، قال: ويحتمل أن يكونَ المرادُ كلاًّ من الأمرين، أو ما هو أعمُّ من ذلك، انتهى.
          وفيه أنَّ الذي احتجَّ بالحديثِ أبو هُريرة لا أبو سلمةَ كما يظهرُ من السياق لكن يحتملُ أنَّ أبا سلمة احتجَّ به أيضاً فتدبَّر.
          وقال في ((الفتح)) أيضاً: واستدلال المصنف بالآية اختيار لأشهرِ التَّفاسير فعن الحسنِ البصريِّ وقتادةَ: {اصْبِرُوا} على طاعة الله {وَصَابِرُوا} أعداء الله في الجهاد {وَرَابِطُوا} في سبيل الله.
          وقال محمد بن كعب: {اصْبِرُوا} على الطاعة {وَصَابِرُوا} الانتظار البعيد {وَرَابِطُوا} العدوَّ {وَاتَّقُوا اللَّهَ} فيما بينكُم.
          وعن زيد بن أسلم: {اصْبِرُوا} على الجهاد {وَصَابِرُوا} العدو {وَرَابِطُوا} الخيل، انتهى.
          وفي لفظ عن محمِّد بن كعب: {اصْبِرُوا} على دينكم {وَصَابِرُوا} لوعدي الذي وعدتُكم عليه {وَرَابِطُوا} عدوِّي وعدوَّكم حتى يتركَ دينَه لدينكم، وعبارة البغوي قال الحسن: {اصْبِرُوا} على دينكم فلا تدعوه لشدَّة ولا لرخاء، وقال قتادة: {اصْبِرُوا} على طاعة الله.
          وقال الضَّحاك ومُقاتل بن سليمان: على أمر الله، وقال مُقاتل بن حبَّان: اصبروا على أداءِ فرائضِ الله، وقال زيد بنُ أسلم: على الجهاد، وقال الكلبيُّ: على البلاء، {وَصَابِرُوا} يعني: الكفَّار {وَرَابِطُوا} يعني: المشركين.
          وقال أبو عُبيدة: أي: داوموا واثبتوا، والرَّبط: الشَّدُّ، وأصل الرِّباط أن يربطَ هؤلاء خيولهم وهؤلاء خيولهم، ثم قيل ذلك لكلِّ مُقيم في ثغرٍ يدفعُ عمَّن ورائهُ، وإنْ لم يكنْ له مركب، انتهت.
          ثم قال: وقال بعضُ أربابِ اللِّسان: {اصْبِرُوا} على النعماء {وَصَابِرُوا} على البأساء والضَّراء {وَرَابِطُوا} في ذلك الأعداءَ، {وَاتَّقُوا اللَّهَ} إله الأرض والسماء {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} في دار البقاء، انتهى.
          وقال البيضاويُّ: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} بالتبرُّؤ عمَّا سواهُ {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} غاية الفلاح، أو فاتَّقوا القبائحَ والمعاصِي {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} بنيلِ المقاماتِ الثَّلاثة المرتَّبة التي هي: الصَّبر على بعضِ الطَّاعات، ومصابرة النَّفس في رفْضِ العاداتِ، ومُرَابطة السرِّ على جنابِ الحقِّ لترصد الوارداتِ المعبَّر عنها بالشَّريعة والطَّريقة والحقيقة.