الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

[كتاب الكسوف]

          ♫
          ░░16▒▒ أَبْوَابُ الكُسُوفِ
           (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ): ثبتت البسملة لكريمةَ، وسقطت لغيرها، وهي ثابتةٌ في ((اليونينيَّة)) أيضاً، ورأيت في نسخةٍ معتمدةٍ تأخيرها عن قوله: (أَبْوَابُ الكُسُوفِ): الثَّابت للمستملي، وفي بعض النُّسخ: <كتاب الكسوف> بدل: ((أبواب الكسوف)) ووقع في نسخةٍ الاقتصار على <بسم الله الرحمن الرحيم، باب الصلاة في كسوف الشمس> قاله شيخ الإسلام.
          والكسوف لغةً: التَّغيُّر إلى سوادٍ، ومنه: كسف وجهه وحاله، وكسفت الشمس: اسودَّت وذهب شعاعها، قاله في ((الفتح)).
          وأقولُ: نقل هذا المعنى عن الأصمعيِّ كما سيأتي.
          وقال في ((الصِّحاح)): الكسفة: القطعة من الشَّيء، والكسف _بالفتح_ مصدرٌ، كسفتُ البعيرَ: إذا قطعتَ عرقوبَه، وكسفت الثَّوب: قطعته، وكسفت الشَّمس كسوفاً، وكسفها الله كسفاً، يتعدَّى ولا يتعدَّى، وكسفت الحال: ساءت، ورجلٌ كاسف البال: سيِّء الحال، وكاسف الوجه: عابسٌ، وفي المثل: أكسفاً وإمساكاً؟! أي: أعبوساً مع بخلٍ، انتهى مفرَّقاً، ومثله في ((القاموس))، وسيأتي بعد أربعة أبوابٍ ما قيل في الكسوف والخسوف حيث عقد له المصنِّف باباً.
          والكسوف والخسوف في الشَّرع: إذهاب ضوء الشَّمس أو القمر أو بعضها، يخلقه الله تعالى تخويفاً للعباد، وزعم علماء الهيئة أنَّ كسوف الشَّمس لا حقيقةَ له فإنَّها لا تتغيَّر في نفسها، وإنَّما القمر يحول بيننا وبينها ونورها باقٍ، وأمَّا كسوف القمر فحقيقةٌ، فإنَّ ضوءه من ضوء الشَّمس، وكسوفه بحيلولة ظلِّ الأرض بين الشَّمس وبينه بنقطة التَّقاطع، فلا يبقى فيه ضوءٌ ألبتَّة، فخسوفه: ذهاب ضوئه حقيقةً، وأبطله ابن العربيِّ: بأنَّهم زعموا أنَّ الشَّمس أضعاف القمر، فكيف يحجب الأصغر الأكبر إذا قابله؟ انتهى.
          وزاد العينيُّ في الرَّدِّ عليهم أشياء، وشنَّع عليهم بأشياء منها: أنَّ الشَّمس إذا كانت تعطيه نورها فكيف يحجب نورها ونوره من نورها، ومنها: أنَّ الشَّمس لها فلكٌ ومجرًى، والقمر كذلك، ولا خلاف أنَّ كلَّ واحدٍ لا يعدو مجراه كلَّ يومٍ إلى مثله من العامِ، فيجتمعان ويتقابلان، فلو كان الخسوف لوقوعه في ظلِّ الأرض في وقتٍ لكان ذلك الوقت محدوداً معلوماً؛ لأنَّ المجرى منهما محدودٌ معلومٌ، فلمَّا كان تأتي الأوقات المختلفة والجري واحدٌ والحساب واحدٌ عُلِم قطعاً فساد قولهم. انتهى.
          وأقولُ: قد بنوا ما قالوه على أرصادٍ وعلومٍ مقرَّرةٍ عندهم يحتاج إلى معرفتها ليظهر ما قالوه، فراجعْ كلامهم وتأمَّله منصِفاً.
          وأقولُ: بيَّن ابنُ حجرٍ المكيُّ في ((فتاواه الفقهيَّة)) وجهَ كون كسوف الشَّمس لا حقيقة له، بخلاف كسوف القمر فقال: بيان ذلك أنَّ جرم القمر كثيفٌ كمد مظلم لا نورَ له لذاته، وإنَّما هو صقيلٌ يستضيء بضياء الشَّمس كالمرآة المصقولة إذا حوذي بها الشَّمس، فيكون النِّصف من القمر المواجه للشَّمس مضيئاً أبداً بضوء الشَّمس، والنِّصف الآخر منه مظلماً على حاله لعدم وصول الضَّوء مِن الشَّمس إليه، فعند اجتماع القمر والشَّمس يكون القمر متساوٍ بين الشَّمس؛ لأنَّ فلكها فوق فلكه؛ إذ هي في السَّماء الرَّابعة فيكون نصفه المظلم مواجهاً لنا، ونصفه المضيء مستوراً عنَّا بالنِّصف المظلم، فلا نرى شيئاً من ضوئه، وهذا هو المحاق. انتهى. فتدبَّره.
          نعم، لا حاجة لنا بذلك؛ لأنَّ الشَّارع أمر بذلك للتَّخويف / فيخلقه الله تعالى.
          وقال الطبريُّ في ((الأحكام)): في الكسوف فوائدُ؛ ظهور التصرُّف في هذَين الخلقين العظيمين، وإزعاج القلوب الغافلة وإيقاظها وإراءة الناس أنموذج القيامة، وكونهما يُفعَل بهما ذلك ثمَّ يُعادان ففي ذلك تنبيهٌ على خوف المكر ورجاء العفو، والإعلام بأنَّه قد يُؤاخذ مَن لا ذنب له، فكيف بمن له ذنبٌ بل ذنوبٌ. والله أعلم.
          ░1▒ (بَابُ الصَّلاةِ): أي: مشروعيَّتها (في كُسُوفِ الشَّمْسِ): وهي سنةٌ مؤكدةٌ لفعله عليه الصَّلاة والسَّلام لها مع أمره بها، وقال في ((الفتح)): مشروعيَّتها أمرٌ متَّفقٌ عليه، لكن اختُلِف في حكمها وصفتها، فالجمهور على أنَّها سنَّةٌ مؤكَّدةٌ، وصرَّح أبو عوانة في ((صحيحه)) بوجوبها، ولم أرَه لغيره إلَّا ما حُكي عن مالكٍ: أنَّه أجراها مجرى الجمعة، ونقل الزَّينُ ابن المنيِّر عن أبي حنيفة وجوبها، ونقل عن بعض الحنفيَّة، انتهى.
          قال العينيُّ: أصل مشروعيَّتها الكتاب والسُّنة والإجماع، لقوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء:59] والكسوف آيةٌ من آيات التَّخويف، ثمَّ قال: وليست بواجبةٍ على الأصحِّ، وقال بعض مشايخنا: واجبةٌ للأمر بها، ونصَّ في ((الأسرار)) على وجوبها، وعن مالكٍ: أنَّه أجراها مجرى الجمعة، وقيل: إنَّها فرض كفايةٍ، واستُبعِد. انتهى، وأمَّا قول الشَّافعيِّ في ((الأمِّ)): لا يجوز تركها، فحمَلوه على الكرَاهةِ، والمكرُوه قد يُوصَف بعدم الجواز لعدم استواء طرفَيه.