الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب ما قيل في الرماح

          ░88▒ (باب مَا قِيلَ فِي الرِّمَاحِ) أي: في اتخاذها واستعمَالها من الفضل، والرماح: بكسر الراء فميم فألف فحاء مهملة، جمع: رمح.
          قال في ((المصباح)): الرمح معروفٌ، والجمع: أَرْمَاح ورِمَاح، ورجل رامح: معه رمح، أو طاعن به، ورمَّاح: صانع له، ورَمَح ذو الحافر رَمْحاً، من باب نفع: ضرب برجلهِ، والرِّماح _بالكسر_:اسم له.
          قال الأزهريُّ: وربما استُعير الرمحُ للخفِّ، انتهى.
          (وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ) أي: ابن الخطَّاب (☻) هذا التَّعليق، كما قال البرماوي وصله أبو داود، وهو في ((مسند)) عبد بن حميد، وله شاهد في ((مصنف ابن أبي شيبة)) مرسل لكن بإسناد حسنٍ، انتهى.
          وقال في ((الفتح)): هو طرفٌ من حديث أخرجَه أحمدُ من طريق أبي مُنيب _بضم الميم_ الجُرَشي _بضم الجيم وفتح الراء وبالشين المعجمة_ عن ابن عمر بلفظ: ((بعثتُ بين يدي الساعة مع السَّيف، وجُعل رزقي تحتَ ظلِّ رمحِي، وجعلَتْ المذلَّة والصَّغار على من خالفَ أمرِي، ومَن تشبَّه بقومٍ فهو منهم)).
          قال: وأبو منيب لا يعرف اسمه، وفي الإسناد عبد الرحمن بنُ ثابت بن ثوبان مختلفٌ في توثيقه، وله شاهد مرسلٌ بإسناد حسنٍ، أخرجه ابن أبي شيبة عن سعيد بن جبلة عن النبيِّ صلعم بتمامه، انتهى.
          ولعل المصنِّف مرَّضه؛ لأن فيه عبد الرحمن المذكور.
          (عَنِ النَّبِيِّ صلعم قالَ: جُعِلَ) ببناء ((جُعِل) للمفعول؛ أي: جعل الله (رِزْقِي) أي: من الغنيمة (تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي) بضم الراء، قال ابنُ المنيِّر: فيه تنبيه حسنٌ على أنَّ ظله عليه السلام بحمدِ الله ممدودٌ، وحظُّه / من السعدِ غير محدود؛ لأنَّ العربَ تضربُ المثل في الطول بظلِّ القناة، انتهى.
          وقال في ((الفتح)): في قوله: ((تحت ظل رمحي)) إشارة إلى أن ظلَّه ممدودٌ إلى أبد الأبد، والحكمة في الاقتصارِ على ذكر الرمحِ دون غيره من آلات الحربِ كالسَّيف أن عادتهم جرتْ بجعل الرَّايات في أطرافِ الرماح، فلمَّا كان ظلُّ الرمح أسبغ كان نسبة الرِّزق إليه أليق، قال: وقد تعرَّض في الحديث الآخر لظلِّ السيف، كما يأتي قريباً من قوله صلعم: ((الجنَّة تحتَ ظلالِ السُّيوف)) فنسب الرِّزق إلى ظلِّ الرمح لما ذكرته أنَّ المقصود بذكر الرُّمح الراية، ونسبَ الجنَّة إلى ظل السيف؛ لأنَّ الشهادة تقعُ به غالباً، ولأن ظلَّ السيف يكثرُ ظهوره بكثرةِ جولةِ السيف في يدِ المقاتل، ولأنَّ ظلَّ السيف لا يظهرُ إلا بعد الضَّرب به؛ لأنه قبل ذلك يكون مغموداً معلقاً، انتهى.
          وأقولُ: لعلَّ التركيب من باب الكناية أو المجاز المرسل؛ لتسبب الرِّزق عن الرمح أو الاستعارة التَّمثيليَّة أو المكنية بتشبيهِ الرمح ببناء مثلاً له ظل متَّسع يشملُ ما يجعل تحته، فتأمل.
          ولم أر من تعرَّض لذلك، وظاهرٌ أنه ليس بحقيقة.
          (وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي) ببناء ((جعل)) للمفعول، وحذف تاء التأنيث منه؛ لأن مرفوعَهُ ظاهرٌ مجازي التأنيث، وثبتَتْ في الرواية السابقة، والذِّلَّة _بكسر الذال المعجمة_ وفعله ذلَّ، من باب ضرب، والاسم الذُّل _بالضم_ والذِّلة _بالكسر_ والمذلة: إذا ضعُف وهان ويتعدَّى بالهمزة فيقال: أذلَّه الله قاله في ((المصباح)).
          وقال في ((القاموس)): ذلَّ يَذِل ذُلاًّ وذُلالةُ _بضمهما_،وذِلَّة _بالكسر_ ومَذَلَّة وذَلالةً: هان، فهو ذليل، وذُلان _بالضم_ والجمع: ذِلالٌ وأذلاَّء وأذلَّة.
          وقوله: والصَّغَار _بفتح الصاد المهملة وتخفيف الغين المعجمة فألف فراء_:اسم بمعنى الهوان.
          ففي ((المصباح)): صُغُر صِغَراً، من باب تعب: إذا ذَلَّ وهانَ، فهو صاغرٌ، انتهى.
          والمراد به هنا: بذلُ الجزيةِ، وعليه فعطفه على الذِّلة من عطف المغاير، وأمَّا على الأصل فهو من عطف التَّفسير، والرَّديف للتأكيد، فافهم، وقوله: ((على من خالفَ أمري)) متعلِّق بـ((جعل)).