الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

كتاب المغازي

          ♫
          ░░64▒▒ (كِتَابُ المَغَازِي)
          ░1▒ (بَابُ غَزْوَةِ العُشَيْرَةِ أَوِ العُسَيْرَةِ): كذا لأبوي ذرٍّ والوقتِ والأصيليِّ بتقديم البسملةِ على لفظ ((كتاب))، ولغيرِهِم تأخيرها، وسقطَ لأبي ذرٍّ لفظ: <باب>، وكذا قوله: <أو العسيرة>، ووقعَ لابن عساكرَ: <بابٌ في المغازي، غزوة العُشيرة أو العُسيرة>.
          قوله: ((المَغازي)) بفتحِ الميمِ والغين المعجمةِ وكسرِ الزَّاي، جمع: مَغْزًى _بفتحِ الميمِ وسكونِ الغين المعجمةِ وفتح الزَّاي، منوَّنةٌ_، يصلحُ أن يكون مصدراً ميميًّا واسمَ مكانٍ، بل قال العينيُّ: يتعيَّنُ المصدرُ هنا، يُقال: غزا يغزُو غزواً ومغزًى ومغزاةً.
          وقال في ((القاموس)): غزاهُ غزواً: أرادَهُ وطلبه وقصدَهُ، كاغتزاهُ، والعدوَّ: سارَ إلى قتالِهِم وانتهابِهِم، غزواً وغزواناً وغزاوةً، وهو غازٍ، والجمع: غُزًّى وغُزِيٌّ كدُلِيٍّ، والغُزِيُّ كغَنِي اسم جمعٍ، وأغزاهُ: حملَهُ عليه، كغزاهُ وأمهله وأخَّر ما عليه من الدَّين، ومغزى الكلام: مقصَدهُ، والمغازِي: مناقبُ الغُزاةِ، انتهى.
          وقال ابن جنِّيٍّ: الغزاةُ كالشَّقاوةِ، وأكثرُ ما يأتي الفعالة مصدراً إذا كان لغيرِ المتعدِّي، وعن ثعلبٍ إذا قيل: غزاة فهو عملُ سنةٍ، وإذا قيل: غزوة فهي المرَّةُ، وأصلُ الغزو: القصدُ، والمرادُ بالمغازِي هنا: ما وقعَ من قصدِ النَّبيِّ صلعم الكفَّارَ بنفسِهِ أو بجيشهِ، وقصدُهم أعمُّ من أن يكون إلى بلادهم أو إلى الأماكنِ التي حلُّوا فيها حتَّى يدخُلَ مثل أُحُدٍ والخندقِ.
          وقوله: ((العشيرَةُ أو العسيرةُ)) بالشَّكِّ هل هي بالشِّين المعجمَةِ أو بالسِّين المهملة، وهو بالتَّصغير فيهما، وقال العينيُّ: قال النَّوويُّ: جاء في كتاب المغازي من ((صحيح البخاريِّ)): ((العُسَيرة)) أي: بضمِّ المهملة الأولى وفتح الثَّانية، أو ((العَسِير)) بفتحِ المهملة الأولى وكسرِ الثَّانية مع حذف الهاءِ، قال: والمعروفُ فيهما ((العشيرة)) بإعجام الشِّين وبالهاءِ، انتهى.
          ثمَّ قال العينيُّ: قال ياقوتُ: قال الأزهريُّ: العشيرةُ: موضع بالصمان، يُنسب إلى عُشَرَةٌ نابتةٌ فيه، انتهى.
          قال في ((الفتح)): ومكان هذه الغزوةِ عندَ منزلِ الحاجِّ بينبُع، ليس بينهما وبين البلدِ إلَّا الطَّريقُ، وخرج في خمسين ومائةٍ، وقيل: مائتين، واستُخلِف فيها أبا سلمَةَ بن عبد الأسدِ، وقال الزَّركشيُّ: غزوةُ العشيرةِ بالسِّين المهملة وبالمعجمةِ، ويُقال بثبوت الهاءِ وحذفها، وهو موضِعٌ بقربِ الينبُع مسكن بني مدلجٍ، بينه وبين المدينةِ سبعةُ بُرَدٍ، كذا قال القرطبيُّ / في اختصَارِهِ للبُخاريِّ.
          وقال القاضِي عياضٌ: هو بالمهملة غزوةُ تبوكَ، وبالمعجمةِ غزوةُ بني مُدلِج، وسُمِّيت العُسيرة؛ لمشقَّة السَّيرِ فيها وعسْرِه على النَّاس؛ لأنَّها كانَتْ زمنَ الحرِّ ووقت طيب الثِّمارِ ومفارقةِ الظِّلال، وكانَتْ في مفاوزَ صعبةٍ ومشقَّةٍ كبيرةٍ وعددٍ كثيرٍ.
          (قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ): سقطَتْ واو <وقال> من أكثرِ الأصُولِ، وسقطَتْ <قال ابن إسحاق>...إلخ لأبي ذرٍّ هنا، وثبتَ عنه من روايةِ المستمليِّ آخرَ الباب، لكن بالعطفِ بالواوِ لا بـ((ثم)) في أكثرِ نُسَخه، هو أبو بكرٍ محمَّد بن إسحاق بن يسارٍ المُطَّلبيُّ مولاهُم المدنيُّ، لكنَّه نزيلُ العراقِ، قدِمَ بغداد وحدَّث بها ومات بها سنة خمسينَ ومائة، ودُفِنَ في مقبرةِ الخيزرانِ، قال العينيُّ: وهي اليومَ مشهورةٌ بمشهدِ الإمامِ أبي حنيفةَ، استشهَدَ به البخاريُّ في ((الصَّحيح))، وروى له في كتابِ القراءةِ خلفَ الإمامِ وغيره، وروى له مسلمٌ في المتابعاتِ، واحتجَّتْ به الأربعةُ، وهو صدوقٌ، لكنَّه ربَّما دلَّس، وقال الكرمانيُّ: التَّابعيُّ صاحبُ كتاب ((المغازي)).
          (أَوَّلُ مَا غَزَا النَّبِيُّ صلعم الأَبْوَاءَ): بفتحِ الهمزةِ وسكونِ الموحَّدة وفتح الواوِ والمدِّ، مرفوعٌ خبرٌ لـ((أوَّل)) لا منصُوبٌ على المفعوليَّة، كما قال القسطلانيُّ، فإنَّه يحتاجُ إلى تكلُّفٍ، و((ما)) تحتمل المصدريَّةَ والموصُولةَ والنَّكرةَ الموصُوفةَ مضافٌ إليها ((أوَّل))، و((الأبواء)) قريةٌ من عمل الفرعِ، بينها وبين الجحفةِ من جهة المدينةِ ثلاثةٌ وعشرون مِيلاً، قيل: سُمِّيت بذلكَ لمَّا كان فيها من الوباءِ، وهي على القلبِ، وإلَّا لقيلَ: الأوباءُ، وهي وَدَّان بفتحِ الواوِ وتشديدِ الدَّال المهملة فألفٌ فنونٌ، وكانَتْ هذه الغزوةُ في صفر على رأس اثنَي عشر شهراً من قدومهِ ◙ المدينةَ.
          قال ابنُ هشامٍ: واستعملَ على المدينة سعدَ بن عُبادةَ، قصدَ قريشاً وبني ضُمرة بن بكرٍ مِن كنانةَ، فوادعتْهُ بنو ضمرةَ، ورجعَ رسولُ الله ولم يلقَ كيداً.
          (ثُمَّ بُوَاطَ): بضمِّ الموحَّدة وفتحها وتخفيفِ الواوِ فألف فطاء مهملةٌ، جبلٌ من جبالِ جُهينةَ بقربِ الينبُعِ، بينها وبين المدينةِ ثلاثةُ بُرَدٍ، وكانَتْ غزوتها في ربيعٍ الأوَّل من السَّنة الثَّانيةِ من الهجرةِ، يُريد قريشاً، واستعملَ على المدينة السَّائبَ بن عُثمان بن مظعونٍ، وقال الواقديُّ: استخلفَ عليها سعدَ بن مُعاذٍ، وكان ◙ في مائتي راكبٍ، وكان قصدُه التَّعرُّضَ لعِيرٍ لقريشٍ كان فيها أميَّة بن خلفٍ، ومعه مائةُ رجلٍ وخمسُمائة بعيرٍ، ثمَّ رجعَ إلى المدينةِ ولم يلقَ فيها كيداً.
          (ثُمَّ الْعُشَيْرَةَ): تقدَّم ضبطها / ، وكانَتْ في جمادى الأولى، سنة اثنتَين في خمسين ومائةٍ، وقيل: في مائتَين من المهاجرين على ثمانينَ بعيراً يعتقبونها، قال الزَّركشيُّ: قال القرطبيُّ: الَّذي قاله ابن إسحاقَ في ترتيبِ الثَّلاثة غزواتٍ هو الصَّحيحُ، انتهى فتأمَّل.
          فأقامَ بها جمادَى الأولى وبعض الثَّاني، ووادعَ فيها بني مُدلِج، وكان اللِّواءُ أبيضَ مع حمزةَ، وبسببها كانَتْ وقعةُ بدرٍ كما سيأتي، قال ابنُ إسحاقَ وغيره: لم يكنْ في هذه الغزواتِ الثَّلاث حربٌ.