الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب التحريض على الرمي

          ░78▒ (باب التَّحْرِيضِ) بالحاء المهملة والضاد المعجمة مصدر حرَّضه بتشديد الراء على الفعل بمعنى التَّحضيض؛ أي: طلبه منه بحث وإزعاجٌ (عَلَى الرَّمْيِ) متعلِّق بالتَّحريض؛ أي: الرَّمي بالسَّهام العربيةِ وغيرها.
          وقد وردَ أحاديث في الحثِّ على الرَّمي بالسَّهام منها ما رواه الترمذيُّ بسندهِ إلى عَمرو بن عنبسةَ يرفعُه: ((من رمى بسهم في سبيل الله فبلغ العدوَّ أو لم يبلغْه كان له كعتقِ رقبةٍ))، ومنها ما رواه ابن حبَّان بسنده إلى كعبِ بن مرَّة قال: سمعتُ رسول الله صلعم يقول: ((مَن بلغَ العدو بسهمٍ رفعَه الله درجتَه)) فقال له عبدُ الرَّحمن بن النحام: وما الدَّرجة يا رسولَ الله؟ قال: ((أمَا إنها ليستْ بعتبةِ أمِّك ما بين الدَّرجتين مائة عام)) انتهى.
          (وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) أي: في أواخرِ الأنفالَ، ولأبي ذرٍّ: <╡> بدل: ((تعالى)) وهو بالجر عطفٌ على التَّحريض، ويجوز رفعُه عطف على باب أو مبتدأ وخبره محذوفٌ ({وَأَعِدُّوا}) أي: أيها المؤمنون ({لَهُمْ}) أي: للكفَّار مطلقاً أو لناقضي العهدَ منهم ({مَا اسْتَطَعْتُمْ}) {ما} الموصولة أو الموصوفة أو المصدرية مفعول {أَعِدُّوا} ({مِنْ قُوَّةٍ}) بيان لـ{مَا}؛ أي: من كلِّ ما يتقوَّى به في الحرب، ومنه الرمي بالسَّهام، وقال في ((الفتح)): لمح بما جاء في تفسير القوَّة في هذه الآية أنها الرَّمي، وهو عندَ مسلم من حديث عُقبة بن عامر بلفظ سمعتُ رسول الله صلعم يقول وهو على المنبر: (({وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] ألا إنَّ القوَّة الرَّمي)).
          وعند ابن حبَّان من وجه آخر عن عُقبة بن عامر رفعه: ((إنَّ الله يدخلَ بالسَّهم الواحد ثلاثة الجنَّة: صانعه يحتسبُ في صنعتهِ الخير، والرَّامي به ومنبلهِ فارمُوا واركبُوا وإنْ ترمُوا أحبُّ إليَّ من أنْ تركبُوا)) الحديث.
          وفيه: ومَن تركَ الرَّمي بعد علمهِ رغبةً عنه فإنها نعمةٌ كفرَها، ولمسلم / من وجه آخر عن عقبة رفعه: ((مَن علمَ الرَّمي ثم تركَه فليس منَّا أو فقد عصَى)) ورواه ابنُ ماجه بلفظ: ((فقد عصَاني)).
          قال القرطبيُّ: إنما فسَّر القوَّة بالرَّمي وإن كانت القوَّة تظهرُ بإعداد غيرهِ من آلاتِ الحربِ لكون الرَّمي أشدَّ نكايةً في العدوِّ وأسهلَ مؤنة، ولأنَّه قد يرمِي رأس الكتيبةِ فيُصاب فينهزمُ من خلفهِ، انتهى.
          وقال البيضاويُّ كـ((الكشاف)) بعدَ أن ذكرَ حديث عُقبة الأول: ولعلَّه عليه الصلاة والسلام خصَّه بالذكرِ؛ لأنَّه أقواهُ، انتهى.
          وبأنَّ ما في قوله: {مَا اسْتَطَعْتُمْ} موصولةٌ أو موصوفةٌ والعائد محذوفٌ، و{مِنْ قُوَّةٍ} بيانٌ له فالمرادُ نفسُ القوَّة في البيان والمبين إشارة إلى أنَّ هذه القوَّة لا تثبتُ بدون المعالجة والإدمانِ الطَّويل عليها دون غيرها، ولذلك كرَّر عليه السلام تفسيرَ القوَّة بالرَّمي، انتهى حاصل كلام الطِّيبي.
          وأجابَ الخفَاجي ممَّا حاصله أنَّه إنما خصَّه؛ لأنه أقوَى ما يتقوَّى به على الجهاد كحديث ((الحج عرفة)) لا لأنَّه المرادُ لا غير ليردَ اعتراضُ الطِّيبي، فتدبر.
          ({ومِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ}) قال البيضاويُّ: رباط: اسمٌ للخيل التي تربط في سبيلِ الله، فعَّال بمعنى مفعول أو مصدر سمِّي به يقال: رَبَط ربطاً ورِبَاطاً ورَابَط مُرَابطة ورِبَاطاً، أو جمع: رَبِيط، كفَصِيل وفِصَال، وقرئ: <ربْط> الخيل بضم الباء وسكونها، جمع: رباط، انتهى فتأمله.
          والجملة حالٌ من فاعل {أَعِدُّوا} أو مستأنفة.
          ({تُرْهِبُونَ بِهِ}) أي: تخوفون برباطها ({عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}) يعني: كفار مكة أو ناقضي العهد، قال البيضاويُّ: وعن يعقوب <ترهبون> بالتشديد، قال: والضَّمير لـ{مَا اسْتَطَعْتُمْ} أو للإعداد، انتهى فافهم.