الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

كتاب البيوع

          ♫
           ░░34▒▒ كِتَابُ الْبُيُوعِ
          (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، كِتَابُ الْبُيُوعِ): هكذا ثبتَتْ البسملةُ مقدَّمة في الفرعِ، ووقعت البسملة لأبي ذرٍّ متأخِّرة عن ((كتاب البيوع)) وهو بضمِّ الموحدة، جمع بَيع بفتحها، قال في ((القاموس)): باعَه يَبيعه بيعاً ومبيعاً، والقياس: مُباعاً: إذا باعهُ وإذا اشتراه؛ ضدٌّ، وهو مَبيعٌ ومَبيوعٌ، وباعَه من السُّلطان: سعى به إليه، والبِياعة بالكسر: السِّلعة، والجمع: بياعات، وكسيِّد: البائع والمشتري والمساوم، والجمع: بِيَعاء، كعِنَباء وأبيعاء، انتهى.
          وقال النَّووي: في أباع بمعنى: باع، بعد أن نقلَه عن أبي عبيدة أنه غريبٌ شاذٌّ، وقال: في ((الجامع)): أبعته أبيعه إباعةً: إذا عرضتَه للبيع، انتهى، وقال ابنُ قتيبةَ: يطلقُ البيع عليه وعلى الشِّراء، ويطلقُ الشراء عليه وعلى البيعِ، ومن إطلاق البيع على الشِّراء قول الفرزدق:
إِنَّ الشَّبَابَ لَرَابِحٌ مَنْ بَاعَهُ                     وَالشَّيْبُ لَيْسَ لِبَائِعِيْهِ تِجَارُ
          وقال في ((المصباح)): وأباعه بالألف لغةٌ، ويُطلق على كلٍّ من المتعاقدين أنه بائعٌ، لكن إذا أُطلق انصرفَ لباذل السِّلعة، ويُطلق البيعُ على المبيعِ، وبعت زيداً الدَّار يتعدَّى إلى مفعولين، ويكثر الاقتصار على الثاني؛ لأنَّه المقصود نحو: بعت الدَّار، ويجوز الاقتصار على الأوَّل عند عدم اللبسِ، وقد تدخل من على المفعول الأول على وجه التَّوكيد، وربَّما دخلت اللام مكان من، وهي زائدةٌ زيادتها في قوله: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج:26] والأصل: بوأنا إبراهيم، انتهى.
          وجمع المصنِّف البيع لاختلاف أنواعهِ كبيع العين، وبيع الدَّين، وبيع المنفعة، والبيع الصَّحيحِ والفاسد وغير ذلك، وأُفرِد في الآية الآتية؛ لأنَّه مصدرٌ في الأصلِ أو لإرادة الجنس.
          وهو لغةً: مبادلة شيءٍ بشيءٍ مطلقاً.
          وشرعاً عند الشَّافعية: مقابلة مالٍ بمالٍ، بإيجاب وقَبول بالصِّيغة على وجه مخصوصٍ، ولا يشترط عند الحنفيَّة فيه الإيجاب والقبول بل التَّراضي.
          قيل: سُمِّي البيع بيعاً؛ لأن البائع يمدُّ باعه إلى المشتري حالة العقد غالباً، ويسمَّى أيضاً صفقةً؛ لأنَّ المتبايعين قد يتصَافقان بالأيدي، ورُدَّ كون البيع مأخوذاً من الباع / بأن البيع مصدرٌ وهو مشتقٌّ منه لا مشتق، وبأنَّه يائي العين، والباع واويها، تقول منه: بُعْت الشَّيء _بالضم_ أبُوعه بَوعاً: إذا قسته بالباع، انتهى.
          وفيه أنَّ هذا إبداءَ مناسبةٍ في المعنى لا في اللَّفظ ليُقال ما ذكر، فتأمَّل، قال في ((الفتح)) وغيره: وأجمعَ المسلمون على جوازِ البيع، وعلى أنَّه سبب لإفادةِ الملك، والحكمة تقتضيهِ، فيُفضِي إلى التَّقاتل والتَّنازعِ وفناء العالم؛ لأنَّ حاجةَ الإنسان تتعلَّق بما في يد غيره غالباً، والغالبُ أنَّه لا يبذله له بدون مقابلٍ، ففي مشروعيَّته وسيلة إلى بلوغِ الغرضِ من غيرِ إضرارٍ بصاحبه، ففيه نظامُ المعاشِ وبقاءُ العالم.
          ومن ثمَّ عقَّب المصنِّف ككثيرين المعاملات بالعبَاداتِ؛ لأنَّها ضروريةٌ، وأخَّروا النِّكاح عنه؛ لأنَّ شهوتَه متأخِّرة عن شهوةِ الأكلِ والشُّرب ونحوهما، وأخَّروا الجناياتِ على النِّكاح؛ لأنَّ حصولها غالباً بعد قضاء شهواتِ البطنِ والفرجِ.
          قال ابنُ الملقِّن: وأمَّا ما وقعَ في ابن بطَّال من تأخير البيوعِ لِما بعد الفراغِ من الأيمان والنُّذور، وتقديمِ الكلامِ على الجهاد إلى هنا، فقد ردَّه بعضُهم بأنَّه غير مناسبٍ، وقال في ((التوضيح)): وأغربَ ابن بطَّال فذكر الجهاد أوَّلاً وأخَّر البيوعَ إلى آخر ما مرَّ آنفاً، قال: ولا أدري لِمَ فعلَ ذلك، وأجابَ عنه العينيُّ بقوله: لعلَّه نظرَ إلى أنَّ الجهاد أيضاً من العباداتِ المقصود منها التَّحصيل الأخرويُّ؛ لأن جُلَّ المقصود ذلك؛ لأنَّ فيه إعلاء كلمةِ الله تعالى وإظهار الدِّين ونشرِ الإسلام.
          قال: وبعضُ أصحابنا قدَّم النِّكاح على البيوعِ في مصنَّفاتهم نظراً إلى أنه يشتملُ على المصالح الدِّينية والدُّنيويَّة، ألا ترى أنه أفضلَ من التَّخلِّي للنَّوافل، وبعضهم قدَّم البيوعَ على النِّكاح نظراً إلى أن احتياجَ النَّاس إلى البيع أكثر من احتياجِهِم إلى النِّكاح، وقال أيضاً: لمَّا كان مدار الدِّين على خمسةِ أشياء: الاعتقاداتُ والعباداتِ والمعاملات والزَّواجر والآداب، فالاعتقادات محلُّها علمُ الكلام، والعباداتُ بينها، فشرعَ في المعاملات وقدَّم منها البيوع نظراً إلى كثرة الاحتياجِ إليه، وذكر لفظ كتاب؛ لأنَّه مشتملٌ على الأبواب، وهي كثيرةٌ في أنواعِ البيوعِ، وجمع البيع لاختلافِ أنواعِهِ، وهي المطلقُ إن كان بيعُ العين بالثَّمن، والمقايضَة إن كان عيناً بعين، والسَّلَم إن كان بيع الدَّين بالعين، والصَّرف إن كان بيعَ الثَّمن بالثَّمن، والمرابحةُ إن كان بالثَّمنِ مع زيادة، والتَّوليةُ إن لم يكنْ مع زيادَةٍ، والوضيعةُ إن كانَ بالنُّقصَان، واللَّازم إن كانَ تامًّا، وغيرُ اللَّازم إن كانَ بالخيارِ، والصَّحيحُ والباطلُ والفاسدُ والمكروهُ، انتهى.
          (وَقَوْلِ اللَّهِ ╡): بالجرِّ فيه وفي لاحقِهِ عطفاً على ((البيوع))، قاله شيخُ الإسلام، ولعلَّ الأَولى رفعه، كما قالهُ العينيُّ عطفاً على ((كتاب)) أو مبتدأٌ خبرهُ محذوفٌ؛ أي: ممَّا يتعلَّق بالبيوعِ أو نحو ذلك، فافهم، وفي بعضِ النُّسَخ: <وقول اللهِ تعَالى> وسقطَتْ الآيتان لأبوَي ذرٍّ والوقتِ وابن عسَاكر، وقال العينيُّ: وقيل: ليسَ فيه واو عطفٍ، وإنما أصلُ النُّسخة هكذا: <كتابُ البيوعِ، قالَ الله تعالى>.
          ({وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ}): أي: أباحَه تعالى ({وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275]) حظرَه ومنعَ من تعاطيهِ، قال الزمخشريُّ: إنكارٌ لتسويتِهِم بينهما، ودلالةٌ على أنَّ القياسَ يهدمُه النصُّ؛ لأنَّه جعلَ الدَّليلَ على بطلانِ قِياسهِم إحلالُ اللهِ تعالى وتحريمُه، وقال غيره: لمَّا ذمَّ الله أكلة الرِّبا بقولهِ: / {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ} وأخبر أنَّهم كانوا اعترضُوا على أحكامِ اللهِ تعالى وقالوا: إنَّما البيعُ مثل الرِّبا، فإذا كان الرِّبا حرَاماً فلا بُدَّ أن يكونَ البيعُ كذلك، فردَّ اللهُ عليهم بقولهِ تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275].
          وقال ابنُ كثيرٍ: يحتملُ أن يكونَ {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} من تمامِ كلامِهِم اعتراضاً على الشَّارعِ، ويحتملُ أن يكونَ من كلامِ الله تعالى ردًّا عليهم، قال إمامنَا الشَّافعيُّ كما في كتابِ ((المعرفة)) للبيهقيِّ: وأصلُ البيوعِ كلِّها مباحَةٌ إذا كانتْ برضَا المتبَايعَين الجائزِي الأمرِ فيما تبايعا إلَّا ما نهَى عنهُ صلعم منه، أو مَا كانَ في معنَى ما نهَى عنهُ رسولُ اللهِ صلعم، انتهى مَا في ((الفتحِ)).
          وللعلماءِ في الآيةِ أقوالٌ ونسبَهَا العينيُّ للشافعيِّ، أظهرُها كما في ((الأمِّ)) أنَّه عامٌّ مخصوصٌ، فإن لفظها عامٌّ يتناولُ كلَّ بيعٍ، فيقتَضِي إباحةَ الجميع، لكن منعَ الشَّارع بيوعاً وحرَّمها، فهو عامٌّ في الإباحةِ مخصوصٌ بما لا يدلُّ الدليل على منعه، ثانيها: أنَّها عامٌّ أريد به الخصوص، ثالثها: أنَّها مُجمَلة بيَّنتها السُّنَّة، وهذه الأقوالُ تدلُّ على أن المفردَ المحلى بأل للعمومِ، وكلُّها تصلح لِأنْ يستدلَّ لها بما ذكرَهُ صاحب ((الحاوي)) دليلاً لأوَّلها، قال: والدَّليل لهذا القول أنَّ النَّبيَّ صلعم نهَى عن بيوعٍ كانوا يعتَادونهَا، ولم يُبيِّن الجائزَ، فدلَّ على أنَّ الآيةَ تناولَتْ إباحةَ جميع البيوعِ إلَّا ما حظرَ منها وبيَّنه النَّبي صلعم، انتهى فتأمَّل، رابعها: أنَّ اللام في البيعِ للعهدِ، وأنَّها نزلَتْ بعدَ أن أباح الشَّارع بيوعاً وحرَّم أخرى، قال في ((الفتح)): وكلام الشَّافعي وغيره يدلُّ على أنَّ البيوعَ الفاسدةَ تُسمَّى بيعاً وإنْ كانَتْ لا يحنثُ بها؛ لبناء الأيمانِ على العرفِ.
          (وَقَوْلِهِ تَعَالَى): وسقطَ: <تعالى> من كثيرٍ من النُّسَخ ({إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} [البقرة:282]) وهذا بعضُ آية المداينةِ، وهي أطولُ آيةٍ في القرآن، قال الثَّعلبيُّ: الاستثناء منقطعٌ؛ أي: لكن إذا كانت تجارةً حاضرةً؛ أي: يداً بيد فلا بأسَ أن لا تكتبوهُ؛ لبُعده عن التَّنازع والنِّسيانِ فإنها ليستْ بباطلةٍ، وقال البيضاويُّ: استثناء عن الأمرِ بالكتابةِ والتِّجارة الحاضِرَة، نعم المبايعة بدينٍ أو عينٍ وإدارتها بينهم: تعاطيهِم إيَّاها يداً بيدٍ؛ أي: إلَّا أن تتبايعُوا يداً بيد فلا بأسَ أنْ لا تكتبوه؛ لبُعده عن التنازعِ والنِّسيان، ونصبَ عاصمٌ {تِجَارَةً} على أنَّه الخبرُ، والاسم مضمرٌ تقديره: إلَّا أن تكون التِّجارة تجارةً حاضرةً، كقوله:
بَنِي أَسَدٍ هَلْ تَعْلَمُونَ بَلَاءَنَا                     إِذَا كَانَ يَوْماً ذَا كَوْاكِبَ أَشْنَعَا
          ورفعها الباقون على أنَّه الاسم والخبر: {تُدِيرُونَهَا} أو على أن كان تامَّة، انتهى.
          والحاصل أنَّ أوَّل هذه الآية يدلُّ على إباحةِ البيوعِ المؤجَّلة، وآخرها على إباحةِ التِّجارة في البيوعِ الحالَّة.