الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: عمل صالح قبل القتال

          ░13▒ (باب عَمَلٍ صَالِحٍ قَبْلَ قِتَالِ) بإضافة ((باب)) إلى ((عمل))، وفي نسخ بتنوينه ورفع ما بعدَهُ، وتقديره باب يُذكر فيه عملٌ صالح، قاله شيخُ الإسلام كالعينيِّ، وظاهرهُ أن رفعَ ((عمل)) على أنَّه نائب فاعل فعلٍ محذوفٍ، ولعلَّه بيانٌ لحاصِلِ المعنى، وإلا فالأنسبُ جعله خبراً لمحذوف نحو المطلوب، أو مبتدأ والظرفُ خبرهُ، فتأمَّل.
          (وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ ☺: إِنَّمَا تُقَاتِلُونَ) بكسر التاء الثانية (بِأَعْمَالِكُمْ) أي: متلبِّسين بها، أو مستعينينِ بها، وانظرْ ما المرادُ بالعملِ هنا وفي الترجمةِ، ولعلَّ المراد به النيَّة الصَّالحة، ويحتملُ أنه نحو الصَّدقة، فإن كلًّا منهما له تأثير في قتالِ الكفَّار، فتدبَّر.
          وما بعد باب كله من كلام أبي الدَّرداء كما في ((الفتح))، قال فيه: ولعله كان قاله أبو الدَّرداء، وقال: إنما تُقاتلونَ بأعمَالكُم، وذلك لأنِّي وجدْتُه في ((المجالسة)) للدِّينَوري من طريقِ ربيعة بن يزيد: أنَّ أبا الدَّرداء قال: أيُّها النَّاس عمَلٌ صَالح قبلَ الغزو، فإنما تُقاتلون بأعمَالكُم.
          قال: ثمَّ ظهر لي سبب تفصيلِ البُخاري له، وذلك لأنَّ هذه الطريقة مُنقطعةٌ بين ربيعة وأبي الدَّرداء، فقد رواه ابنُ المُبارك في كتاب ((الجهاد)) عن سعيد بن عبد العزيز عن حَلْبَس _بفتح الحاء المهملة والموحدة بينهما لام ساكنة آخره سين مهملة_ عن أبي الدَّرداء بلفظ: إنما تُقاتلونَ بأعمَالكُم، ولم يذكر ما قبله، فاقتصر البُخاري في العزو إلى أبي الدَّرداء على ما وردَ عنه بالسَّند المتِّصل جازماً به عنه، واستعمل ما ورد عنه مُنقطعاً ترجمة، انتهى ملخَّصاً.
          (وَقَوْلُهُ ╡) أي: في سورة الصف، وفي بعض الأصُول: <وقولهُ تعالى> برفع: ((قوله)) وجره ولا يخفَى توجيههما ({يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ}) الموجُودُ في كثيرٍ من النُّسخِ ذكر الآيتين بكمَالهمَا، وفي بعضها: <وقوله ╡: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} إلى قوله: {كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ}>، قال البيضاويُّ: {لم} مركَّبَة من لام الجرِّ وما الاستفهاميَّة، والأكثرُ على حذف ألفهَا مع حرفِ الجرِّ؛ لكثرَةِ استعمَالهمَا معاً واعتناقهما في الدَّلالة على المستفهم عنه أنكر عليهم ذلك، فإنهم طلبُوا الجهادَ، وقالوا: لو علمنا أيَّ الأعمَالِ أحب إلى الله لعملناهُ، فخرجوا إلى أُحُد ثمَّ انهزموا فيها.
          وقال ابنُ المنيِّر: مناسبة الترجمة والآية للحديث ظاهرة، وفي مناسبةِ التَّرجمة للآية خفاء، وكأنَّه من جهةِ أنَّ الله عاتَبَ من قال أنَّه يفعلُ الخيرَ ولم يفعلْه، وأثنى على من وفى وثبتَ عند القتَالِ، أو من جهةِ أنَّه أنكرَ على مَن قدم على القتَالِ قولاً غيرَ مرضيٍّ، فكشَفَ الغيبُ أنه أخلَفَ، فمفهومُهُ ثبُوتُ الفضْلِ في تقديمِ الصِّدقِ، والعزمِ الصَّحيحِ على الوفاء، وذلك من أصلحِ الأعمَالِ، انتهى.
          وهذا الثَّاني أظهر فيما أرى، وقال الكرمانيُّ: المقصُود من الآيةِ في هذِهِ التَّرجمة قوله في آخرِهَا: {صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} لأنَّ الصَّف في القتَالِ من العمَلِ الصَّالح قبل القتَالِ، انتهى.
          وقال البغويُّ: قال المفسِّرون: إنَّ المؤمنين قالوا: لو علمنَا أحبَّ الأعمَالِ إلى الله تعالى لعملناهُ ولبذلنَا فيهِ أموَالنا وأنفسَنَا، فأنزلَ الله ╡: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4] فابتلوا بذلكَ يوم أُحُد فولَّوا مُدْبرينَ، فأنزل الله ╡: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف:2].
          وقال محمد بنُ كعبٍ: لما أخبر الله رسُوله صلعم بثوَاب شهداء بدرٍ قالت الصَّحابة: لئن لقينا بعده قتالاً لنفرغنَّ فيه وُسعنا، ففروا يوم أحد / فعيَّرهم الله بهذه الآية.
          وقال قتادة والضحَّاك: نزلت في شأن القتال، كان الرجلُ يقول: قاتلت ولم يقاتلْ، وطعنت ولم يُطعن، وضربت ولم يُضرب فنزلت هذه الآية، وقال ابنُ زيد: نزلت في المنافقين كانوا يعدُّون النصر للمؤمنين وهم كاذبون، انتهى.
          وعليه فقال الحسن: إنما بدأهم بالإيمان تهكُّماً بهم.
          ({كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}) {كَبُرَ} بضم الموحدة للتَّعجب؛ أي: ما أعظم قولكم المذكور، والغرضُ من هذا التَّعجب تعظيمُ الأمرِ في قلوبِ السَّامعين؛ لأنَّ التَّعجُّب إنما يكون مما خرجَ عن نظائرِهِ، و{مَقْتاً} نصب على التَّمييز للدلالة على أنَّ قولهم هذا مقتٌ خالصٌ، والمقتُ أشدُّ البُغض؛ أي: كبر مقتاً عند الَّذي يحقر دونه كل عظيم مبالغةً في المنع عنه، قاله البيضاوي.
          لكن في ((القاموس)): مقَتَه مَقْتاً ومقاتَةً: أبغَضَه، كمَقَّتَه فهو مَقِيْتٌ وممْقُوتٌ، قال: ونكاحُ المَقتِ أن يتزوَّج امرأة أبيه بعده، والمقْتِيُّ: ذلك المتزوِّج أو ولده، وما أمْقَتَه عندي يُخبر أنه ممقُوتٌ، وما أمقَتَني لك: تُخبر أنَّك ماقِتٌ، انتهى.
          و{أَنْ تَقُولُوا} في تأويل مصدر فاعل {كَبُرَ} كقولك: بئس رجلاً أخوك.
          قال البغويُّ: ومعنى الآية أنَّ ذلك عظم في المقْتِ والبُغضِ عند الله؛ أي: أنَّ اللهَ يبغَضُ بُغْضاً شديداً أن تعدوا من أنفسِكُم شيئاً ثم لم توفُوا به.
          ({إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِه}) أي: من جهاد الكفَّار أو في طاعتهِ مطلقاً ({صَفّاً}) أي: صافِّين فهو حال، وقال البيضاويُّ: {صَفّاً} مصطفين مصدر وصف به، انتهى.
          وأقولُ: ظاهره أنه صفةُ مصدر محذوف؛ أي: قتالاً صفاً، لكن سيَأتي أنه حالٌ، وإليه يشيرُ قوله: مصطفين، فتدبَّر.
          ({كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ}) أي: كأنَّهم في تراصهِم وانضمامِ بعضِهم إلى بعضٍ كبنيانٍ ملتَصقٍ بعضه ببعض من غير فرجة أصلاً، وقال البغويُّ: وقيل كالرصَاص، والمراد أنهم ثابتون في أماكنهم حال قتالهم للكفَّار لا يزولون عنها، وسقط لأبي ذرٍّ ما بين: <{لَا تَفْعَلُوْنَ} وبين {كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوْصٌ}>.
          وقال الكرمانيُّ: المقصود من ذكر هذه الآية لفظ {صَفًّا}؛ أي: صافِّين أنفسهم أو مصفُوفين، إذ هو عملٌ صَالح قبل القتال، وقيل: يجوزُ أن يريدَ استواء نيَّاتهم في الثَّبات، حتى يكونوا في اجتماعِ الكلمة كالبنيانِ، وقيل: مفهومه مدحُ الذين قالوا وعزمُوا وقاتلوا، والقولُ فيه والعزم عمَلان صَالحان، انتهى.
          وقال البيضاويُّ: {كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} حالٌ من المستكن في الحالِ الأولى، انتهى.
          وأقولُ: هي صفًّا لتأويله بالمشتقِّ كما مرَّ، وقال الخَفاجِي: هذا بيانٌ لقول ((الكشاف)) {صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4] حالان مُتداخلتان.