الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: الحرب خدعة

          ░157▒ (باب الْحَرْبُ خَدْعَةٌ) بفتح الخاء المعجمة وسكون الدال المهملة، كما في الفرعِ وأصلِه، وهي أفصحُ لغاته، كما نقلَ النوويُّ الاتِّفاقَ عليه، وجزمَ بها أبو ذرٍّ الهرويُّ والقزَّازُ.
          وقال ثعلبٌ: بلغَنا أنَّها لغةُ النبيِّ صلعم، قال أبو بكرِ بنُ طلحةَ: أراد ثعلبٌ أنَّ النبيَّ صلعم كان يستعملُ هذه اللُّغةَ كثيراً لوجازةِ لفظها، وكَثرةِ معناها، ولكونِها تُعطي معنى اللُّغتينِ الأُخريينِ، قال: ويُعطي معناها أيضاً الأمرُ باستعمالِ الحيلةِ مهما أمكنَ، ولو مرَّةً.
          وللأصيليِّ كما في ((الفتح)): <خُدْعَةٌ> _بضم الخاء المعجمة وسكون الدال المهملة_،ويجوزُ: خُدَعةٌ _بضم أوله وفتح ثانيه_ كهُمَزةٍ، وهي صيغةُ مُبالغةٍ، وحَكى المنذريُّ: خَدَعة _بفتح الخاء والدال_، قال: وهو جمعُ: خادِعٍ، وحكى مكِّيٌّ وغيره: خِدْعةٌ _بكسر الخاء وسكون الدال_، كما وُجدَ ذلك بخطِّ مُغَلْطايْ، وأصلُ الخدْعِ: إظهارُ أمرٍ وإضمارُ خلافِه.
          وقال اللِّحيانيُّ: خدعتُ الرَّجلَ، أخدَعُه، خَدْعاً وخِدْعاً، وخَديعةً وخَدَعةً: إذا أظهَرتَ له خِلافَ ما تُخفي، وفي ((المحكَم)): الخَدْعُ والخَديعةُ: المصدَرُ، والخِدْعُ والخِداعُ: الاسمُ، ورجلٌ خَيدَعٌ: كثيرُ الخِداعِ، ومعنى: ((خَدْعة)) بالإسكان أنَّها تخدَعُ أهلَها، من وصفِ الفاعلِ بالمصدرِ، أو من وصفِ المفعولِ، وكأنه قال: أهلُ الحَربِ خَدْعةٌ، كهذا الدِّرهمُ ضَرْبُ الأميرِ؛ أي: مضروبُه.
          وقال الخطابيُّ: معناها أنها مرَّةٌ واحدةٌ؛ يعني: إذا خُدعَ مرَّةً واحدةً لم تُقلْ عثرَتُه، وقيل: الحكمةُ في الإتيانِ بالتاء للدَّلالةِ على الوحَّدةِ، فكأنَّه الخداعُ إن كان من المسلمين، فكأنَّه حضَّهم على ذلك ولو مرَّةً واحدةً، وإن كان من الكفَّارِ، فكأنه حذَّرَهم من مَكرِهم، ولو وقع مرَّةً واحدةً، فلا ينبغي التَّهاونُ بهم؛ لما ينشأُ عنه من المفسدةِ ولو قلَّ.
          ومعنى الضمِّ مع السكونِ أنَّها تخدَعُ الرِّجالَ؛ أي: محلُّ الخِداعِ وموضِعُه، ومع فتح الدالِ أنَّها تخدَعُ الرِّجالَ؛ تمنِّيهم الظَّفرَ، ولا تَفي لهم، كالضُّحْكةِ: إذا كان يُضحِكُ الناسَ، وهذه الكلمةُ ذكَرَ بعضُ أهلِ السِّيرِ أنَّ النبيَّ صلعم أوَّلَ ما قالها يومَ الأحزابِ لمَّا بعثَ نُعيمَ بنَ مسعودٍ ليدخُلَ بين قُريشٍ وغطفانَ ويهودَ، والمعنى أنَّ المماكَرةَ في الحربِ أنفَعُ من المكاثرةِ، والخِداعَ في الحربِ مُباحٌ وإن كان محذوراً في غيرِها.
          وقال ابنُ المنيِّر: معنى: ((الحربُ خُدْعةٌ))؛ أي: الحربُ الجيِّدةُ لصاحبها، الكامِلةُ في مقصودِها، إنما هي المخادَعةُ لا المواجهةُ، وذلك لخطرِ المواجَهةِ، وحصولِ الظَّفرِ مع المخادَعةِ بغيرِ خطرٍ.