الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب من أراد غزوة فورَّى بغيرها ومن أحب الخروج يوم الخميس

          ░103▒ (باب مَنْ أَرَادَ) أي: بيان مَن أرادَ (غَزْوَةً) بفتح الغين المعجمة والواو بينهما زاي ساكنة، وهو مصدر بالتاء، ومثله غزواً بحذفها، وغزوانا بزيادة ألف ونون.
          قال في ((القاموس)): غزَاهُ غَزْوة: أرادَه وطلبَه وقصدَه، كاغتزاهُ، والعدوَّ: سارَ إلى قتالهم وانتهابِهِم غَزْواً وغَزَواناً فهو غازٍ، والجمع: غُزًّى وغُزِيٌّ كدُليٍّ. والغَزِ[يُّ]، كغنيٍّ: اسم جمعٍ، وأغزاهُ: حملَهُ عليه، كغزَّاه، وأمهلَ، وأخَّر ما له عليه من الدَّين.
          (فَوَرَّى) بفتح الواو وتشديد الراء المفتوحة؛ أي: كنَّى وعرَّض (بِغَيْرِهَا) أي: بغزوةِ غيرها أو أعم منها.
          وقال في ((الفتح)): معنى ورَّى سترَ، وتستعملُ في إظهارِ شيءٍ مع إرادة غيره، قال: وأصله من الوَرْي _بفتح فسكون_ وهو ما يجعلُ وراء الإنسان؛ لأن من ورى بشيءٍ كأنه جعلَه وراءه، وقيل: هو في الحربِ أخذ العدو على غرَّة.
          وقيَّده السِّيرافي في ((شرح سيبويه)) بالهمزة قال: وأصحابُ الحديثِ لم يضبطوا فيه الهمزة وكأنهم سهَّلوها، انتهى.
          وقال الزركشيُّ: ورَّى بغيرها؛ أي: تستَّر، وأصله من وراء الإنسان؛ لأنَّ مَن ورَّى بشيءٍ فكأنَّه جعله وراءَه، واعترضَه في ((المصابيح)) فقال: غرَّ الزركشيُّ هذا الكلام من السِّيرافي فظنَّ خطأ المحدِّثين، وليس كذلك.
          ففي ((الصحاح)): واريتُ الشَّيء: أخفيتُه وتوارَى هو؛ أي: استترَ قال: وتقول: ورَّيتُ الخبر توريةً: إذا سترته وأظهرتُ غيره، فإن قيل: إنَّه عيَّن أخذَه من وراءِ الإنسان، فيكون مهموزاً.
          قلت: همزة وراء ليست أصليَّة، بل هي منقلبة عن ياء، فإذا لوحظَ في فعل معنى وراء لم يجز الإتيانُ فيه بالهمزة لفقدان الموجبِ لقلبها في الفعل، وثبوتهِ في وراء، وهذا يقتضِي القطع بخطأ الزركشيِّ، ولا أدري مع هذا كيف يصح كلام السِّيرافي، فتأمله انتهى.
          وفيه: أن ما ذكره الزركشيُّ بيان للمعنى، ولئن سلَّمنا خلافه فلا مُنافاة؛ لأن سببَ القلبِ موجودٌ في وراء دون ورَّى، انتهى.
          وأما كلامُ السِّيرافي مبني على أن الفعلَ ليس بمهموز في الحالِ، ولا في الأصل، فتدبَّر.
          قال في ((المصابيح)): والمراد بالتَّورية التَّعريض كما إذا قصدَ غزو مكانِ قريب فيسأل عن مكان بعيدٍ، فيفهم السَّامع بسبب ذلك أنه / يقصدُه، فالمتكلِّم صادقٌ، والخللُ وقعَ في فهم السَّامع، وعرفَ أهل المعاني والبيان التَّورية.
          (وَمَنْ أَحَبَّ) معطوف على من أرادَ، والمراد بـ((أحب)) استحسنَ (الْخُرُوجَ) أي: إلى السَّفر (يَوْمَ الْخَمِيسِ) قال في ((الفتح)): ولعلَّ سببه ما رُوي من قولهِ صلعم: ((بُورك لأمَّتي في بكورِهَا يوم الخميسِ)) وهو حديث ضعيفٌ، أخرجه الطَّبراني من حديث نبيط _بنون فموحدة مصغراً_ ابن شَريط _بفتح الشين المعجمة أوله_،قال: وكونه صلعم كان يحبُّ الخروج يوم الخميس لا يستلزمُ المواظبةَ عليه لقيام مانع، وسيأتي بعد باب أنه خرجَ في بعضِ أسفارهِ يوم السبت.
          ثم أوردَ أطرافاً من حديث كعب وهو ظاهر فيما ترجم له قال: وروى سعيد بنُ منصور، عن مهدي بن ميمون، عن واصل مولى ابن عُيينة قال: بلغني أنَّ النَّبي صلعم كان إذا سافرَ أحب أن يخرجَ يوم الخميس، انتهى.
          واعترضَه العينيُّ فقال: طلب الحكمة في ذلك بالحديث الضَّعيف لا وجهَ له، والحكمةُ قد تعلم من حديث الباب، فإنه صرَّح فيه بأنه كان يحب أن يخرجَ يوم الخميس، فلعلَّ خروجَه يوم السَّبت كان لمانعٍ من خروجهِ يوم الخميس، ولئن سلَّمنا عدمَ المانع فنقولُ: لعلَّه كان يحب أيضاً الخروجَ يوم السَّبت على ما رُوي: ((باركَ الله لأمَّتي في سَبْتِها وخميسِهَا)) ولما لم يثبتْ عند البُخاري إلا يوم الخميس خصَّه بالذكر، انتهى فتأمله.