الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

[أبواب تقصير الصلاة]

          ♫
          ░░18▒▒ أَبْوَابُ التَّقْصِيْرِ
           (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ): سقطت لأبي ذرٍّ والمستملي وأبي الوقتِ (أَبْوَابُ التَّقْصِيْرِ): ثبتت هذه التَّرجمة للمستملي مع البسملة، وكذا لكريمة والأصيليِّ إثبات البسملة، ووقع لأبي الوقتِ: <أبواب تقصير الصَّلاة>، وقال شيخ الإسلام كالعينيِّ: وفي بعض النُّسخ: <كتاب التقصير>.
          و((التَّقصير)): مصدر قصَّر _بالتَّشديد_ يقال: قصرت الصلاة _بالتخفيف_ قصراً، من باب كضرباً، وقصَّرتها _بالتَّشديد_ تقصيراً، وأقصرتها _بالهمز_ إقصاراً، والأوَّل أشهر وأفصح استعمالاً ولغةً، وبه جاء القرآن العزيز، ولينظر وجه عدول المصنِّف عنه، والمراد بالتَّقصير: ردُّ فرض الصَّلاة المكتوبة الرُّباعية إلى ركعتين، ونقل ابنُ المنذر وغيره الإجماعَ على أن لا قصر في الصُّبح ولا في المغرب، لكن في ((التُّحفة)) لابن حجرٍ ومثله الرَّملي وغيره: إنَّما تقصر مكتوبةً لا نحو منذورةٍ ونافلةٍ رباعيَّةٍ، لا صبح ومغرب إجماعاً، نعم حُكِي عن بعض أصحابنا جواز قصر الصُّبح في الخوف إلى ركعةٍ، وفي مسلمٍ: ((إنَّ الصَّلاة فُرضت في الخوف ركعةً)) وحملوه على أنَّه يصلِّيها فيه مع الإمام، وينفردُ بأخرى، وعمَّم ابن عبَّاسٍ ومَن تبعَه القصرَ إلى ركعةٍ في الخوف في الصُّبح وفي غيرها، لعموم الحديث المذكور. انتهى، فاعرفه.
          ░1▒ (بَابُ مَا جَاءَ): أي: ورد (فِي التَّقْصِيرِ): اعلم أنَّ شرط جواز القصرِ عندنا: أن يكون السَّفر طويلاً غير معصيةٍ لذاته، سواءٌ كان طاعةً واجباً أو مندوباً، كسفر الحجِّ وزيارة الصَّالحين، أو مباحاً كسفر تجارةٍ، أو مكروهاً بأن سافر وحدَه لا سيَّما في اللَّيل لخبر أحمد وغيره: ((كرِه رسولُ الله الوحدة في السَّفر، ولعنَ راكب الفلاة وحدَه)) إن ظنَّ لحوقَ ضررٍ به، لحديث: ((الرَّاكب شيطانٌ، والرَّاكبان شيطانان والثَّلاثة ركبٌ)) ولِما صحَّ: ((لو يعلم النَّاس ما أعلمُ في الوحدةِ ما سارَ راكبٌ بليلٍ وحدَه)) فيُكره الواحد، وكذا الاثنان، لكنَّ الكراهية فيهما أخفُّ، نعم مَن يأنس بالوحدة كأنس غيره بالرِّفقة لم يُكره في حقِّه.
          وقال في ((الفتح)): قال النَّوويُّ: ذهب الجمهور إلى أنَّه يجوز القصر في كلِّ سفرٍ مباحٍ، وذهب بعض السَّلف إلى أنَّه يُشترط في القصر الخوف في السَّفر، وشرط بعضهم كونه سفر حجٍّ أو عمرةٍ أو جهادٍ، وبعضهم كونه سفر طاعةٍ، وعن أبي حنيفة والثوريِّ: في كلِّ سفرٍ، سواءٌ كان طاعةً أو معصيةً. انتهى، وذلك لأنَّ القصر عندهما عزيمةٌ، والأصل في القصر مع ما سيأتي قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء:101].
          وكان ابتداؤه على ما في ((شرح المسند)) لابن الأثير في السَّنة الرَّابعة من الهجرة: وأوَّل صلاةٍ قُصرت صلاة العصر، قصرها رسول الله بعسفان في غزوة أنمارٍ، ذكره الثَّعلبيُّ في ((تفسيره)) عن ابن عبَّاسٍ.
          وقوله: (وَكَمْ يُقِيمُ): أي: المسافر (حَتَّى يَقْصُرَ؟): معطوفٌ على مجرور ((في))، و((يقصُر)): بضمِّ الصَّاد، وفي نسخة باليونينيَّة: <يقصِّر> بالتَّشديد.
          قال في ((الفتح)): في هذه التَّرجمة إشكالٌ؛ لأنَّ الإقامة ليست سبباً للقصر، ولا القصر غاية للإقامة، قاله الكرمانيُّ وأجاب: بأنَّ عدد الأيَّام المذكورة سببٌ لمعرفة جواز القصر فيها ومنع الزِّيادة عليها، وأجاب غيره: بأنَّ المعنى: وكم إقامته المغيَّاة بالقصرِ؟ وقيل: فاعل: ((يقيم)): هو المسافر، والمراد: إقامته في بلدٍ ما غايتها الَّتي إذا حصلت يقصر. انتهى.
           / وجرى على الأخير شيخ الإسلام قال: أي: وكم يمكثُ يوماً المسافر لأجل القصر فيما إذا تردَّد في مدَّة قضاء الحاجة، فـ((كم)): استفهاميَّةٌ، وجوابها محذوفٌ تقديره: تسعة عشر يوماً، كما يأتي بما فيه.
          و((حتَّى)): للتَّعليل؛ أي: لكي يقصر، وقد أطالَ العينيُّ الكلام وفوق إلى نحو غرضه السِّهام، وذكر أنَّ ((حتَّى)): للتَّعليل، و((كم)): استفهاميَّةٌ، وجعلها بمعنى يمكثُ، وجواب ((كم)): محذوفٌ نحو: تسعة عشر يوماً، وهذا في الحقيقة من كلام الكرماني، فتأمَّل.
          فقال: إنَّ الكرمانيَّ تكلَّف في حلِّ هذا التَّركيب وتعسَّف في ذلك جدًّا، وإنَّ بعضهم تصرَّف فيه تصرُّفاتٍ عجيبةً وذكرها، منها ما نقله عن غيره...إلخ، ومنها ما قاله من عنده وهو أنَّ ((حتَّى)) بمعنى: حين؛ أي: كم يقيم حين يقصر؟ وهذا أيضاً غير صحيحٍ، لأنَّه لم ينقل عن أحدٍ مِن أهل اللِّسان أنَّ حتَّى تجيء بمعنى: حين. انتهى.
          ولعلَّه أراد بيان المعنى، فتدبَّره منصفاً.