الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

[كتاب الصلح]

          ░░53 ▒▒ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ) بإثبات البسملةِ للجميعِ مقدَّمةً، إلا في بعضِ الأصول (كِتَابُ الصُّلْحِ).
          ░1 ▒ (مَا جَاءَ فِي الإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ) زاد الأَصيليُّ وأبو ذرٍّ عن الكُشميهَنيِّ: <إذا تفاسَدوا> وسقط لغيرِ الأَصيليِّ وأبي الوقت: <كتابُ الصُّلح> وسقط لأبي ذرٍّ: <ما جاء> كذا في القسطلانيُّ.
          وقال في ((الفتح)): <بسم الله الرحمن الرحيمِ، كتابُ الصُّلحِ> كذا للنسَفيِّ والأَصيليِّ وأبي الوقت، ولغيرهم: <باب الصُّلح> وفي نسخةِ الصَّغَانيِّ: <أبوابُ الصُّلحِ، بابُ ما جاء> واقتصرَ في روايةِ أبي ذرٍّ على قوله: <في الإصلاحِ بين الناس> وزاد عن الكُشميهنيِّ: <إذا تفاسَدوا> انتهى، فليُتأمَّل.
          ورأيتُ في أصلَين معتمَدَين: <بسم الله الرحمن الرحيم، كتابُ الصُّلح، بابُ ما جاء في الإصلاح بين الناس> والمرادُ: بابُ ما جاءَ في فضلِ الإصلاحِ بين الناس.
          واعلمْ أنَّ الصُّلحَ لغةً: قطعُ النِّزاع.
          وقال العَينيُّ: هو لغةً: اسمٌ بمعنى المصالَحة، وهي المسالَمةُ، خِلافُ المخاصَمةِ، وأصلُه: من الصَّلاحِ، ضد: الفساد، وشرعاً: عقدٌ يحصُلُ به قَطعُ النِّزاعِ بين اثنَين، وهو أنواعٌ كثيرةٌ، كالصُّلح بين المسلمين والكفار، والصُّلحِ بين الزوجَين عند الشِّقاق بينهما، والصُّلحِ بين الفئةِ العادلةِ والباغيةِ، والصُّلحِ بين المتغاضبِينَ، والصُّلحِ في الجِراحِ بالعفوِ على مالٍ، والصُّلحِ لقَطعِ الخصومةِ إذا وقعَتِ المزاحَمةُ في الأملاك أو في المشترَكاتِ، كالشوارع.
          قال في ((الفتح)) بعد ذِكرِ هذه الأقسام: وهذا الأخيرُ هو الذي يتكلَّمُ فيه أصحابُ الفروعِ، وأما المصنِّفُ فترجَمَ هنا لأكثرِهِم.
          (وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) بجرِّ: ((قولِ الله)) ورفعِه، ولأبي ذرٍّ: <╡> وفي بعض النُّسَخ: <وقولِه تعالى> ({لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ...} إلخ) هذه الآيةُ في سورة النِّساء، وهي مذكورةٌ بجميعِها في النُّسَخ، إلا لأبوَي ذرٍّ والوقتِ، فإلى قوله: <{إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ}> وقال:<إلى آخرِ الآيةِ>، وللأَصيليِّ: فإلى قوله: <{ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ...} وقال: الآيةَ>.
          والنَّجوى: الكلامُ الخَفيُّ بين اثنَين فأكثرَ، وقال النحَّاسُ: كلُّ كلامٍ ينفرِدُ به جماعةٌ، سواءٌ كان سِرًّا أو جهراً فهو نَجوى؛ أي: لا خيرَ في كثيرٍ من تناجِي الناس.
          ({إِلاَّ مَنْ أَمَرَ}) أي: إلا نجوَى مَنْ أمرَ، بناءً على أنه في محلِّ جرٍّ، بدَلٌ من {كَثِيرٍ} فهو على حَذفِ مضافٍ، وجوَّزوا أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على أنَّ الاستثناءَ منقطِعٌ؛ أي: لكنْ مَنْ أمَر ({بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ}) أي: المتخاصمِين، وفسَّرَه البَيضاويُّ بإصلاحِ ذاتِ البَين، وهذا يشمَلُ أنواعَ الصُّلحِ المارَّة آنفاً.
          وقال البَيضاويُّ: {لا خَيْرَ في كَثِيْرٍ مِنْ نَجْوَاهُم} أي: مُتَناجِيهم؛ لقوله تعالى: {وَإِذْ هُمْ نَجْوَى} أو مِن تَناجيهِم، فقولُه: {إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوْفٍ} على حذفِ مُضافٍ؛ أي: إلا نجوى مَنْ أمرَ، أو على الانقطاعِ بمعنى: ولكنْ مَنْ أمَرَ بصَدقةٍ ففي نجواه خيرٌ، والمعروف: كلُّ ما يستحسِنُه الشرعُ ولا يُنكِرُه العقلُ، وفُسِّرَ هاهنا / بالقَرضِ وإغاثةِ الملهوف وصدَقةِ التطوُّعِ وسائرِ ما فُسِّرَ به، انتهى.
          والحاصِلُ: أنَّ الاستثناءَ يحتمِلُ الاتِّصالَ على وجهَين، والانقِطاعُ كذلك، فافهم، ومعناه: لا ينبغِي أن يكونَ أكثرُ نَجواهم إلا في هذه الخِلال.
          ({وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ}) أي: ما ذَكَرَ في الآيةِ من هذه الخِصالِ المحمُودة ({ابْتِغَاءَ}) أي: لطلَبِ ({مَرْضَاةِ اللَّهِ}) أي: رضاه، بخلافِ مَن يفعلُه لقصدِ رياءٍ أو سُمعةٍ، فعلَيه الوِزْرُ.
          وجملةُ: ({فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً}) جوابُ ((مَن)) الشرطيةِ، وقال البَيضاويُّ: بنى الأمرَ على الأمرِ، ورتَّبَ الجزاءَ على الفعل؛ ليدُلَّ على أنه لمَّا دخلَ الآمرُ في زُمرةِ الخيرَينِ كان الفاعلُ أدخَلَ فيهم، وأنَّ العُمدةَ والغَرضَ هو الفِعلُ، واعتبارُ الأمرِ من حيثُ إنه وُصْلةٌ إليه، وقيَّدَ الفعلَ بأنْ يكونَ لطلَبِ مَرضاةِ الله تعالى؛ لأنَّ الأعمالَ بالنيات، وأنَّ مَنْ فعَلَ خيراً رياءً وسُمعةً لم يستحِقَّ به من الله أجراً، ووصَفَ الأجرَ بالعظيمِ تَنبيهاً على حَقارةِ ما نالَه في جَنبِهِ من أعراضِ الدُّنيا، وقرأ حمزةُ وأبو عمرٍو: {يُؤْتِيْهِ} بالياء.
          (وَخُرُوجِ الإِمَامِ) بالجرِّ؛ أي: السلطانِ (إِلَى الْمَوَاضِعِ) أيِّ: مَوضِعٍ كان (لِيُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ) أي: المتخَاصِمِين، والجارُّ والمجرورُ متعلِّقٌ بـ ((خروج)) كقوله: (بِأَصْحَابِهِ) لكنِ الأولُ للتعليل، و((خروجِ)) مجرورٌ عَطْفاً على سابقِهِ، وهو من جملةِ الترجمةِ كما نبَّهَ عليه في ((الفتح)) وهذا كالآيةِ دالٌّ على فضيلةِ الإصلاحِ بين الناس، ويدلُّ له أيضاً ما رواه أحمدُ عن أبي الدَّرداءِ ☺ قال: قال رسولُ الله صلعم: ((ألَا أخبِرُكم بأفضَلَ من درجةِ الصيامِ والصَّلاةِ والصدقةِ؟ قالوا: بلى، قال: إصلاحُ ذاتِ البَينِ؛ فإنَّ فسادَ ذاتِ البينِ هي الحالقةُ)).